الآيات 26-29

قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ، إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ، فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ، أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾

القراءة:

قرأ نافع والكسائي (ندعوه أنه) بفتح الحمزة على تقدير أنه أو لأنه. الباقون بكسر الهمزة على الاستئناف. لما حكى الله تعالى ان أهل الجنة يقبل بعضهم على بعض ويسأل بعضهم بعضا عن أحوالهم ذكر ما يقولونه فإنهم يقولون (إنا كنا) في دار الدنيا (في أهلنا مشفقين) أي خائفين رقيقي القلب، فالاشفاق رقة القلب عما يكون من الخوف على الشئ، والشفقة نقيض الغلظة. واصله الضعف من قولهم: ثوب شفق أي ضعيف النسج رديئه، ومنه الشفق، وهو الحمرة التي تكون عند غروب الشمس إلى العشاء الآخرة، لأنها حمرة ضعيفة. والأهل هو المختص بغيره من جهة ما هو أولى به، وكلما كان أولى به فهو أحق بأنه أهله، فمن ذلك أهل الجنة وأهل النار. ومن ذلك أهل الجود والكرم، وفلان من أهل القرآن، ومن أهل العلم، ومن أهل الكوفة. ومن هذا قيل: لزوجة الرجل: أهله، لأنها مختصة به من جهة هي أولى به من غيره. فقوله (في أهلنا مشفقين) اي من يختص به ممن هو أولى بنا. وقوله (فمن الله علينا) فالمن القطع عن المكاره إلى المحاب، يقال: من على الأسير يمن منا إذا أطلقه وأحسن إليه، وامتن عليه بصنيعه أي اقتطعه عن شكره بتذكير نعمته والمنية قاطعة عن تصرف الحي (وأجر غير ممنون) (1) أي غير مقطوع. وقوله (ووقانا عذاب السموم) الوقا: منع الشئ من المخوف بما يحول بينه وبينه، ومنه الوقاية، ووقاه يقيه وقاء فهو واق، ووقاه توقية قال الراجز: إذا الموقي مثل ما وقيت عذاب السموم فالسموم الحر الذي يدخل في مسام البدن بما يوجد ألمه، ومنه ريح السموم، ومسام البدن الخروق الدقاق. ثم قالوا (إنا كنا من قبل ندعوه) يعني في دار التكليف ندعوه (أنه هو البر الرحيم) أي ندعوه بهذا، فيمن فتح الهمزة، ومن كسرها أراد إنا كنا ندعوه ونتضرع إليه، ثم ابتدأ فقال (إنه هو البر الرحيم) قال ابن عباس: البر هو اللطيف وأصل الباب اللطف مع عظم الشأن، ومنه البر للطفها مع عظم النفع بها، ومنه البر لأنه لطف النفع به مع عظم الشأن، ومنه البرية للطف مسالكها مع عظم شأنها، والبر بالكسر الفاره، والبر بر الوالدين، وقولهم: فلان لا يعرف هره من بره قيل في معناه ثلاثة أشياء:

أحدها: لا يعرف السنور من الفاره

الثاني: لا يعرف من يبره ممن يكرهه.

الثالث: لا يعرف دعاء الغنم وهو برها من سوقها. ثم قال تعالى للنبي صلى الله عليه وآله (فذكر) يا محمد أي اعظ هؤلاء المكلفين (فما أنت بنعمة ربك) قسم من الله تعالى بنعمته (بكاهن ولا مجنون) على ما يرمونك به. وقال البلخي: معناه ما أنت بنعمة الله عليك بكاهن، ولا يلزم أن يكون الله تعالى لم ينعم على الكاهن، لان الله تعالى قد عم على جميع خلقه بالنعم وإن كان ما أنعم به على النبي أكثر، وقد مكن الله الكاهن وسائر الكفار من الايمان به، وذلك نعمة عليه. فالكاهن الذي يذكر انه يخبر عن الجن على طريق العزائم، والكهانة صنعة الكاهن، والكاهن الموهم انه يعلم الغيب بطريق خدمة الجن والمجنون المؤف بما يغطي على عقله حتى لا يدرك به في حال يقظة، وقد علموا أنه ليس بشاعر، كما علموا أنه ليس بمجنون، لكن قالوا ذلك على جهة التكذيب عليه ليستريحوا إلى ذلك كما يستريح السفهاء إلى التكذب على أعدائهم. ثم قال (أم) ومعناه بل (يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) قال مجاهد: ريب المنون حوادث الدهر. وقال ابن عباس وقتادة: الموت، والمنون المنية، وريبها الحوادث التي تريب عند مجيئها وقال الشاعر:

تربص بها ريب المنون لعلها * سيهلك عنها بعلها وشحيح (2)


1- سورة 95 التين آية 6.

2- تفسير الطبري 27 / 17.