الآيات 45-55
قوله تعالى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ، وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ، وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَفِرُّوا إلى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ، وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾
القراءة:
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " وقوم نوح " جرا عطفا على قوله " وفي عاد " وتقديره وفي قوم نوح آية. الباقون بالنصب على تقدير وأهلكنا قوم نوح، ويحتمل أن يكون على تقدير فأخذت صاعقة العذاب قوم نوح، إذ العرب تسمى كل عذاب مهلك صاقعة. الثالث على تقدير: واذكر قوم نوح، كقوله " وإبراهيم الذي وفي " (1) والقوم الجماعة الذين من شأنهم أن يقوموا بالامر، واضافتهم إليه تقتضي انه منهم في النسب. ولم يفرد ل? (قوم) واحد. ثم بين لما أهلكهم فقال " إنهم كانوا قوما فاسقين " خارجين من طاعة الله - عز وجل - إلى الكفر بالله فاستحقوا لذلك الاهلاك. وقوله " والسماء بنيناها بأيد " معناه بقوة - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد - والأيدي القوة، ووجه اتصال قوله " والسماء بنيناها بأيد " بما قبله وهو ان في قوم نوح آية وفي السماء أيضا آية فهو متصل به في المعنى. وقوله " وإنا لموسعون " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: قال الحسن: التوسعة في الرزق بالمطر
الثاني: قال ابن زيد: بقوة وإنا لموسعون السماء.
الثالث: انا لقادرون على الاتساع بأكثر من اتساع السماء. والاتساع الاكثار من إذهاب الشئ في الجهات بما يمكن أن يكون أكثر مما في غيره يقال أوسع يوسع ايساعا، فهو موسع. والله تعالى قد أوسع السماء بما لا بناء أوسع منه وايساع الرحمة هو الاكثار منها بما يعم. وقوله " والأرض فرشناها " عطف على قوله " والسماء بنيناها " وتقديره وبنينا السماء بنيناها وفرشنا الأرض فرشناها أي بسطناها " فنعم الماهدون " والماهد الموطئ للشئ المهئ لما يصلح الاستقرار عليه، مهد يمهد مهدا، فهو ماهد، ومهد تمهيدا، مثل وطأ توطئة. وقوله " ومن كل شئ خلقنا زوجين " معناه خلقنا من كل شئ اثنين مثل الليل والنهار، والشمس والقمر والأرض والسماء، والجن والانس - في قول الحسن ومجاهد - وقال ابن زيد " خلقنا زوجين " الذكر والأنثى. وفى ذلك تذكير بالعبرة في تصريف الخلق والنعمة في المنفعة والمصلحة " لعلكم تذكرون " معناه لتتذكروا وتفكروا فيه وتعتبروا به. وقوله " ففروا إلى الله " أي فاهربوا إلى الله من عقابه إلى رحمته باخلاص العبادة له. وقيل: معناه ففروا إلى الله بترك جميع ما يشغلكم عن طاعته ويقطعكم عما أمركم به " اني لكم منه نذير " مخوف من عقابه " مبين " عما أوجب عليكم من طاعته. ثم نهاهم فقال " ولا تجعلوا مع الله الها آخر " أي لا تعبدوا معه معبودا آخر من الأصنام والأوثان " اني لكم منه نذير مبين " أي من الله مخوف من عقابه مظهر ما أوجب عليكم وأمركم به. وقيل: الوجه في تكرار (اني لكم منه نذير مبين) هو ان الثاني منعقد بغير ما انعقد به الأول إذ تقديره اني لكم منه نذير مبين في الامتناع من جعل اله آخر معه، وتقدير الأول اني لكم منه نذير مبين في ترك الفرار إليه بطاعته فهو كقولك: أنذرك أن تكفر بالله أنذرك ان تتعرض لسخط الله، ويجوز أن يقول الله ولا تجعلوا مع الله قديما آخر، كما قال (ولا تجعلوا مع الله إلها) لان جعلهم ذلك باعتقادهم إلها معه أو اظهارهم انه مذهب لهم. ولا يجوز ان يقول: لا تكونوا قدماء مع الله لأنه نهي عما لا يمكن، وهو محال، وكذلك لا يجوز ان يقول لا تصيروا قدماء ولا آلهة، لأنه محال. والنذير هو المخبر بما يحذر منه ويصرف عنه وهو يقتضي المبالغة. والمنذر صفة جارية على الفعل تقول: انذر ينذر انذارا، فهو منذر، ونذره أي علم به واستعد له والمبين الذي يأتي ببيان الحق من الباطل. ثم قال مثل ما أتى هؤلاء الكفار نبي فكذبوه (كذلك ما أتى الذين من قبلهم) من الأمم (رسول إلا قالوا) هو (ساحر أو مجنون) فالساحر هو الذي يحتال بالحيل اللطيفة. والمجنون الذي به جنون. وإنما قال الجهال ذلك في الرسل لان الاقدام عندهم على إنكار عبادة الأوثان لا يكفي فيه الشبهة دون الجنة، فالمجنون المغطى على عقله بمالا يتوجه للادراك به، فكذلك شبه حال قريش في التكذيب بحال. الأمم حتى قالوا: سحر أو مجنون. وإنما جاز منهم الاتفاق على تكذيب الرسل من غير تواص ولا تلاق، لان الشبهة الداعية إليه واحدة. وقوله (اتواصوا) فالتواصي هو إيصاء بعض القوم إلى بعض بوصية، والوصية التقدمة في الامر بالأشياء المهمة مع النهي عن المخالفة، كالوصية بقضاء الدين ورد الوديعة والحج والصدقة وغير ذلك، فكأن هؤلاء الجهال قد تواصوا بعبادة الأوثان بما هم عليه من الملازمة وشدة المحافظة وصورة الكلام صورة الاستفهام والمراد به الانكار والتوبيخ. وقوله (بل هم قوم طاغون) معناه لم يتواصوا بذلك لكنهم طاغون طغوا في معصية الله وخرجوا عن الحد. ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله (فتول عنهم) أي اعرض عنهم يا محمد - في قول مجاهد - (فما أنت بملوم) في كفرهم وجحودهم بل اللائمة والذم عليهم من حيث لا يقبلون ما تدعوهم إليه، وليس المراد أعرض عن تذكيرهم ووعظهم، وإنما أراد أعرض عن مكافأتهم ومقابلتهم ومباراتهم وما أنت في ذلك بملوم (وذكر) بالموعظة (فان الذكرى تنفع المؤمنين) الذين يتعظون بمواعظ الله ويستدلون بآياته. قال حسين بن صمصم:
أما بنو عبس فان هجينهم * ولى فوارسه وافلت اعورا (2)
1- سورة 53 النجم آية 37.
2- مجاز القرآن 2 / 228.