الآية 84

قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾

المعنى:

قد بينا فيما مضى أن الميثاق هو العهد. والمعنى في الآية: واذكروا إذ أخذنا ميثاق اسلافكم الذين كانوا في زمن موسى، والأنبياء الماضين (ع)، وإنما أضاف إليهم لما كانوا أخلافا (1) لهم على ما مضى القول فيه.

وتقدير الاعراب في هذه الآية مثل الآية الأولى سواء. واما سفك الدم، فإنه صبه واراقته. ومعنى " لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم " النهي عن أن يقتل بعضهم بعضا، وكان في قتل الرجل منهم قتل نفسه إذا كانت ملتهما واحدة، ودينهما واحد وكان أهل الدين الواحد في ولاية بعضهم بعضا بمنزلة رجل واحد.

كما قال النبي صلى الله عليه وآله: إنما المؤمنون في تعاطفهم وتراحمهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر. فهذا قول قتادة وأبي العالية. ويحتمل أن يكون المراد لا يقتل الرجل منكم غيره فيقاد به قصاصا.

فيكون بذلك قاتلا نفسه، لأنه كالسبب فيه وأضيف قتل الولي إياه قصاصا إليه بذلك. كما يقال لرجل يعاقب لجناية جناها على نفسه: أنت جنيت على نفسك. وفيه قول ثالث: وهو ان قوله: " أنفسكم " أراد به اخوانكم، لأنهم كنفس واحدة.

وقوله: " ثم أقررتم وأنتم تشهدون " اي أقررتم بذلك أيضا، وبذلتموه من أنفسكم، وأنتم شاهدون على من تقدمكم بأخذنا منهم الميثاق، وما بذلوه من أنفسهم.

فذكر تعالى اقرارهم وشهادتهم، لان اخذ الميثاق كان على اسلافهم - وإن كان لازما للجميع، لتوكيد الحجة عليهم. - وقال بعض المفسرين: نزلت هذه الآية في بني قريظة والنضير.

يقول: حرم الله في الكتاب ان تسفكوا دماءكم، اي لا تقتتلوا فيقتل بعضكم بعضا (2)، ولا تتركوا أسيرا في يد الآسرين ليقتلوه " ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم " معناه لا تغلبوا أحدا على داره، فتخرجوه، فقبلتم ذلك وأقررتم به.

وهو اخذ الميثاق " وأنتم تشهدون " بذلك. واما النفس فمأخوذة من النفاسة، وهي الجلالة فنفس الانسان أنفس ما فيه. والدار هي المنزل الذي فيه أبنية المقام، بخلاف (3) منزل الارتحال.

وقال الخليل: كل موضع حل فيه قوم فهو دار لهم - وان لم يكن فيه أبنية. وقيل أيضا: إن معنى قوله: " ثم أقررتم وأنتم تشهدون " ان اقرارهم هو الرضاء به، والصبر عليه: كما قال الشاعر:

الست كليبيا إذ سيم خطة * أقر كاقرار الحليلة للبعل

وقوله: " وأنتم تشهدون " يحتمل أمرين:

أحدهما: وأنتم تشهدون على أنفسكم بالاقرار.

والثاني: وأنتم تحضرون دماءكم. ويخرجون أنفسكم من دياركم.

وحكي عن ابن عباس أنه قال: ذلك خطاب من الله تعالى لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجري رسول الله صلى الله عليه وآله أيام هجرته إليهم موبخا لهم على تضييعهم احكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها.

فقال الله تعالى لهم: " ثم أقررتم " يعني بذلك أقر أو لكم وسلفكم وأنتم تشهدون على اقرارهم، باخذ الميثاق عليهم بان لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، ويصدقوا بان ذلك حق من ميثاقي عليكم.

وقال أبو العالية: ذلك خبر من الله عن أوائلهم. ولكنه اخرج الخبر مخرج المخاطبة عنهم على النحو الذي وصفناه في سائر الآيات. " وأنتم تشهدون " اي وأنتم شهود.


1- هذه عبارة المخطوطة وفي المطبوعة: " كانوا خلافا على ".

2- في المخطوطة " لا تقلوا ". وعبارة المطبوعة هكذا: " لا يقتلوا فيقتل بعضكم ولا تتركوا... ".

3- في المطبوعة " بجلال ".