الآية 83
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: " لا يعبدون " بالياء. الباقون بالتاء. وقرأ " حسنا " بنصب (1) الحاء والسين (2) حمزة والكسائي الباقون " حسنا " بضم الحاء وإسكان السين وتقدير الآية: واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله، فلما أسقطت ان، رفع.
كما قال الشاعر:
ألا ايهذا اللائمي اشهد الوغى * وان اشهد اللذات هل أنت مخلدي (3)
ومثله قوله: " أفغير الله تأمروني اعبد ". ومن قرأ بالياء، تقديره انه اخبر انه تعالى أخذ ميثاقهم، لا يعبدون إلا الله، وبالوالدين احسانا، ثم عدل إلى خطابهم فقال: " وقولوا للناس حسنا ". والعرب تفعل ذلك كثيرا.
وإنما استخاروا ان يصيروا إلى المخاطبة بعد الخير، لان الخبر إنما كان عمن خاطبوه بعينه، لا عن غيره. وقد يخاطبون، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الخبر عن المخاطب.
مثال الأول قول الشاعر:
شطت مزار العاشقين فأصبحت * عسرا علي طلابك ابنة مخزم (4)
مزار نصب. والتاء من أصبحت كناية عن المرأة فأخبر عنها ثم خاطبها.
ومثال الثاني قول الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة * لدنيا ولا مقلية ان تقلت (5)
وقال زهير:
فاني لو ألاقيك اجتهدنا * وكان لكل منكره كفاء
وابري موضحات الرأس منه * وقد يبرى من الجرب الهناء
ومن قرأ بالتاء فان الكلام من أوله خطاب. وتقديره: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، قلنا لا تعبدوا الا الله.
قال بعض النحويين: المعنى وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون الا الله، وبالوالدين احسانا، حكاية، كأنه قال استحلفناهم لا يعبدون إلا الله، إذ قلنا لهم: والله لو قالوا والله لا تعبدون. والأول أجود.
وقوله تعالى: " وبالوالدين احسانا " عطف على موضع أن المحذوفة في " تعبدون إلا الله وبالوالدين احسانا " فرفع لا تعبدون، لما حذفت أن، ثم عطف بالوالدين على موضعها: كما قال الشاعر:
معاوي اننا بشر فاسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا (6)
فعطف (7) ولا الحديد على موضع الجبال. واما الاحسان فمنصوب بفعل مضمر يؤدى عن معناه، قوله (8) " وبالوالدين " إذ كان مفهوما معناه. وتقدير الكلام وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بان لا تعبدوا إلا الله وان تحسنوا إلى الوالدين احسانا.
فاكتفى بقوله: " بالوالدين " عن أن يقول بان تحسنوا إلى الوالدين احسانا، إذ (9) كان مفهوما بما ظهر من الكلام. وقال بعض أهل العربية: تقديره وبالوالدين فأحسنوا، فجعل الياء التي في الوالدين من صلة الاحسان مقدمة عليه.
وقال آخرون: الا تعبدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين احسانا، فزعموا أن الباء في وبالوالدين من صلة المحذوف. أعني من أحسنوا.
فجعلوا ذلك من كلامين والاحسان الذي اخذ عليهم الميثاق بان يفعلوه إلى الوالدين ما فرض على امتثالهما من فعل المعروف، والقول الجميل، وخفض جناح الذل رحمة بهما، والتحنن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء لهما بالخير، وما أشبهه مما ندب الله تعالى إلى الفعل بهما. وقوله: " ذي القربى " أي وبذي القربى ان تصلوا قرابة منهم، ورحمة.
اللغة:
والقربى مصدر على وزن فعلى من قولك: قرب مني رحم فلان قرابة، وقربى وقربا بمعنى واحد. واليتامى جمع يتيم: مثل أسير وأسارى. ويدخل في اليتامى الذكور منهم والإناث.
المعنى:
ومعنى ذلك: أخذنا ميثاق بني إسرائيل بان لا تعبدوا إلا الله وحده، دون ما سواه من الأنداد، وبالوالدين احسانا وبذي القربى ان يصلوا رحمه، ويعرفوا حقه. وباليتامى ان يتعطفوا عليهم بالرأفة، والرحمة، وبالمساكين أن يوفوهم حقوقهم التي ألزمها الله في أموالهم.
والمسكين هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة وهو مفعيل من المسكنة وهي ذل الحاجة والفاقة. وقوله: " وقولوا للناس حسنا " فيه عدول إلى الخطاب بعد الخبر على ما مضى القول فيه. وقد ذكرنا اختلاف القراء في حسنا وحسنا.
واختلف أهل اللغة في الفرق بينهما فقال بعض البصريين هو (10) على أحد وجهين:
أحدهما: أن يكون أراد بالحسن الحسن.
ويكون لمعنيين مثل البخل والبخل واما أن يكون جعل الحسن هو الحسن في التشبيه، لان الحسن مصدر والحسن هو الشئ الحسن، فيكون ذلك: كقول القائل: إنما أنت أكل وشرب قال الشاعر:
وخيل قد دلفت لها بخيل * تحية بينهم ضرب وجيع (11)
فجعل التحية ضربا
وقال آخر: بل الحسن هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن، والحسن هو البعض من معاني الحسن، ولذلك قال تعالى إذ (12) وصى بالوالدين " ووصينا الانسان بوالديه حسنا " (13) يعني بذلك انه وصاه بجميع معاني الحسن: وقرئ في الشواذ: حسنى. لا يقرء بها لشذوذها حكاها الأخفش. وذلك لا يجوز لان فعلى، وافعل لا يستعمل إلا بالألف واللام.
نحو الأحسن والحسنى والأفضل والفضلي قال الله تعالى: " للذين أحسنوا الحسنى " (14) وروي عن أبي جعفر محمد ابن علي الباقر " ع " وعن عطا انهما قالا: وقولوا للناس حسنا للناس كلهم. وعن الربيع بن انس قولوا للناس حسنا: أي معروفا. وعن ابن الحنفية أنه قال: " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " هي مسجلة للبر والفاجر. يريد بمسجلها انها مرسلة.
ومنهم من قال: أمروا بان يقولوا لبنى إسرائيل حسنا. قال ابن عباس يأمرون بألا اله الا الله، من لم يقبلها ويرغب عنها حتى يقولها: كما قالوها. فان ذلك قربة لهم من الله قال: والحسن أيضا من لين القول - من الأدب الحسن الجميل - والخلق الكريم وهو مما ارتضاه (15) الله تعالى وأحبه. وقال ابن جريج: قولوا للناس حسنا: أي صدقا في شأن محمد " ص " وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر وقوله: " وأقيموا الصلاة " أدوا بحدودها الواجبة عليكم. " وآتوا الزكاة " معناه وأعطوها أهلها كما أوجبها عليكم. والزكاة: التي فرضها الله على بني إسرائيل.
قال ابن عباس: كان فرض في أموالهم قربانا تهبط إليه نار فتحملها. وكان ذلك تقبله. ومن لم تفعل النار به ذلك، كان غير متقبل. وروي عنه أيضا ان المعني به طاعة الله والاخلاص.
وقوله: " ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون " خبر من الله تعالى عن يهود بني إسرائيل انهم نكثوا عهده، ونقضوا ميثاقه بعد ما اخذ ميثاقهم على الوفاء له، بان لا يعبدوا غيره، وبان يحسنوا إلى الآباء والأمهات، ويصلوا الأرحام، ويتعطفوا على الأيتام، ويردوا حقوق المساكين، ويأمروا عباد الله بما أمرهم به، ويقيموا الصلاة بحدودها، ويؤتوا زكاة أموالهم، فخالفوا امره في ذلك كله، وتولوا عنه معرضين إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده، وميثاقه.
ووصف هؤلاء بأنهم قليل بالإضافة إلى من لم يؤمن. وقال بعضهم: أراد " ثم توليتم إلا قليلا منكم، وأنتم معرضون ": اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله.
وعنى بسائر الآية اسلافهم، كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام: ثم توليتم إلا قليلا منكم ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم، ثم قال: وأنتم معاشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي اخذ عليكم.
وقال قوم: يلي قوله: (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجري رسول الله " ص " من يهود بني إسرائيل، وذم لهم بنقضهم الميثاق، الذي اخذ عليهم في التوراة، وتبديلهم امر الله وركوبهم معاصيه.
وروي عن ابن عباس أنه قال: قوله " وقولوا للناس حسنا " نسخ بقوله: قاتلوهم حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يقروا بالجزية. وقال آخرون: ليست منسوخة لكن أمروا بأن يقولوا حسنا في الاحتجاج عليهم، إذا دعوا إلى الايمان، وبين ذلك لهم. وقال قتادة نسختها آية السيف.
الصحيح انها ليست منسوخة، وإنما امر، الله تعال بالقول الحسن في الدعاء إليه والاحتجاج عليه، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " (16) وبين في آية أخرى، فقال: " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم (17) وليس الامر بالقتال ناسخا لذلك، لان كل واحد منهما ثابت في موضعه.
1- في المخطوطة والمطبوعة هكذا والصحيح بفتح.
2- في المطبوعة " الصواب وبفتح الحاء والسين " زائدة.
3- قائله طرفه بن العبد البكري ديوانه: 317. من معلقته المشهورة. وروايته: " الزاجر " بدل " اللائم ". واحضر - في الموضعين - بدل (اشهد).
4- قائله عنترة بن شداد. اللسان (شطط) وروايته (طلابها) بدل (طلابك) وفي معلقته هكذا: حلت بأرض الزائرين فأصبحت * عسرا علي طلابك ابنة مخرم.
5- قائله كثير عزة، ديوانه 1: 53. قلاه يقليه قلى فهو مقلي: كرهه. وتقلى أي استعمل من القول أو الفعل ما يدعو إلى بغضه.
6- قائله عقيبة بن هبيرة الأسدي، جاهلي اسلامي. الخزانة: 343.
7- في المطبوعة " فعطت ".
8- في المطبوعة والمخطوطة " وقوله " على ما يظهر ان الناسخ زاد الواو لأنه لم يفهم معنى الكلام.
9- في المطبوعة والمخطوطة " إذا " الألف أيضا زيادة من الناسخ.
10- في المطبوعة والمخطوطة (المصريين) وهو خطأ.
11- قاله عمرو بن معد يكرب. الخزانة 4: 54. يقال دلفت الكتيبة إلى الكتيبة في الحرب: أي تقدمت.
12- في المطبوعة والمخطوطة (إذا) بزيادة الألف وهو خطأ.
13- سورة العنكبوت: آية 9.
14- سورة يونس: آية 26.
15- في المطبوعة " ارتضا " بدون الهاء.
16- سورة النحل آية: 125.
17- سوره الانعام آية: 108.