الآيات 36-40
قوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ، فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾
القراءة:
قرأ (وإدبار) بكسر الألف ابن كثير ونافع وأهل الحجاز وحمزة على المصدر من أدبر إدبارا، وتقديره وقت إدبار السجود. والمصادر تجعل ظرفا على إرادة إضافة أسماء الزمان إليها وحذفها، كقولهم جئتك مقدم الحاج وخلوق النجم ونحو ذلك يريدون في ذلك كله وقت كذا وكذا فحذفوه. الباقون بفتح الألف على أنه جمع (دبر): يقول الله تعالى مخبرا (وكم أهلكنا) ومعناه وكثيرا أهلكنا وذلك أن (كم) تكون استفهاما تارة في معنى الخبر للتكثير وإنما خرجت عن الاستفهام إلى التكثير لتكون نقيضة (رب) في التقليل وكانت أحق به، لأنها (اسم) مع احتمالها للتقليل، فأما رب في الكلام، فهي حرف يجري مجرى حرف النفي، لان التقليل أقرب إلى النفي، وإنما وجب ل? (كم) صدر الكلام في الخبر إعلاما بأنها خرجت عن الاستفهام مع أنها نقيضة (رب) التي هي بمنزلة حروف النفي، ودخلت (من) على مفسر (كم) في الخبر بمنزلة عدد يفسر بالمضاف كقولك عشر أثواب، وعشرة من الأثواب. فجاز حرف الإضافة كما جازت الإضافة، وليس كذلك عشرون درهما، وجاز ان يفسر في الخبر بالواحد وبالجمع: والقرن المقدار من الزمان الذي يقترون بالبقاء فيه أهله على مجرى العادة. وقال قوم: هو مئة وعشرون سنة. وقيل: ثمانون سنة وقال آخرون: هو سبعون سنة. وقال قوم: أربعون سنة. وقيل ثلاثون سنة. وقيل: عشر سنين " هم أشد منهم بطشا " أي الذين أهلكناهم مثل هؤلاء الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء وأكثر عدة كقوم عاد وغيرهم فلم يتعذر علينا ذلك، فما الذي يؤمن هؤلاء من مثل ذلك. وقوله (فنقبوا في البلاد) أي فتحوا مسالك في البلاد بشدة بطشهم فالتنقيب التفتيح بما يصلح للسلوك من نقض البنية، ومنه النقب الفتح الذي يصلح للمسلك وقد يفتح الله على العباد في الرزق بأن يوسع عليهم في رزقهم، ولا يصلح فيه النقب. وكل نقب فتح. وليس كل فتح نقبا، فالنقب نقض موضع بما يصلح للسلوك. وقال مجاهد: نقبوا في البلاد أي ضربوا في الأرض ضرب جاعل المسالك بالنقب، قال امرؤ القيس:
لقد نقبت في الآفاق حتى * رضيت من الغنيمة بالآياب (1)
وقوله (هل من محيص) أي هل من محيد، وهو الذهاب في ناحية عن الامر للهرب منه، حاص يحيص حيصا فهو حايص مثل حاد يحيد حيدا فهو حايد والمعنى إن أولئك الكفار الذي وصفهم بشدة البطش لما نزل بهم عذاب الله لم يكن لهم مهرب ولا محيص عنه. وقيل هل من محيد من الموت، ومنجا من الهلاك. قال الزجاج: هؤلاء الكفار طوفوا في البلاد، فلم يجدوا مخلصا من الموت. وقوله (إن في ذلك لذكرى) يعني في ما أخبرته وقصصته لك لذكرى أي ما يتفكر فيه ويعتبر به (لمن كان له قلب) قيل معنى القلب - ههنا - العقل من قولهم أين ذهب قلبك، وفلان ذاهب القلب، وفلان قلبه معه، وإنما قال (لمن كان له قلب) لان من لا يعيي الذكر لا يعتد بماله من القلب. وقوله (أو القى السمع وهو شهيد) قال ابن عباس: معناه استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع، فهو شهيد لما يسمع ويفقهه غير غافل عنه، وهو قول مجاهد والضحاك وسفيان، يقال ألق إلي سمعك أي استمع. وقال قتادة: وهو شهيد على صفة النبي صلى الله عليه وآله في الكتب السالفة، وهذا في أهل الكتاب. والأول أظهر. ثم أقسم الله تعالى فقال (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) وقد مضى تفسير مثله في غير موضع (2) (وما مسنا من لغوب) أي من نصب وتعب - في قول ابن عباس ومجاهد - واللغوب الاعياء. قال قتادة: أكذب الله تعالى بذلك اليهود، فإنهم قالوا: استراح الله يوم السبت، فهو عندهم يوم الراحة. وقيل: إنما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام مع قدرته على أن يخلفهما في وقت، لان في ذلك لطفا للملائكة حين شاهدوه يظهر حالا بعد حال وقيل: لان في الخبر بذلك لطفا للمكلفين في ما بعد إذا تصوروا أن ذلك يوجد شيئا بعد شئ مع أدب النفس به في ترك الاستعجال إذا جرى في فعل الله لضروب من التدبير. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله (فاصبر) يا محمد (على ما يقولون) من قولهم: هو ساحر، وكذاب، ومجنون، واحتمل ذلك حتى يأتي الله بالفرج (وسبح بحمد ربك) أي نزهه عما لا يليق به (قبل طلوع الشمس) صلاة الفجر (وقبل الغروب) صلاة العصر - في قول قتادة وابن زيد - (ومن الليل) يعني صلاة الليل يدخل فيه صلاة المغرب والعتمة. وقال ابن زيد: هو صلاة العتمة (وأدبار السجود) الركعتان بعد المغرب - في قول الحسن بن علي عليهما السلام ومجاهد والشعبي وإبراهيم. وقال الحسن (وقبل الغروب) صلاة الظهر والعصر. وقال الركعتان بعد المغرب تطوعا. وقيل: التسبيح بعد الصلاة - عن ابن عباس ومجاهد - وقيل: النوافل - عن ابن زيد - وأصل التسبيح التنزيه لله عن كل ما لا يجوز في صفة، وسميت الصلاة تسبيحا لما فيها من التسبيح، يقال: سبحان ربي العظيم، وروي أيضا أراد ب? (ادبار السجود) الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل طلوع الفجر. وروي في الشواذ عن أبي عمر وأنه قرأ " فنقبوا " بتخفيف القاف، وهي لغة في التشديد. ورجل نقاب أي حاذق فظن عالم كان ابن عباس نقابا، والنقبة الحرب ونقب خف البعير إذا انتقب وقرئ على لفظ الامر وهو شاذ.
1- ديوانه 48 ومجاز القرآن 2 / 224 الشاهد 836.
2- انظر 4 / 451 و 5 / 385، 517 و 7 / 500 و 8 / 293 و 9 / 9 1.