الآيات 16-20

قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾

يقول الله تعالى مقسما إنه خلق الانسان أي اخترعه وأنشأه مقدرا. والخلق الفعل الواقع على تقدير وترتيب. والمعنى إنه يوجده على ما تقتضيه الحكمة من غير زيادة ولا نقصان. وأخبر انه يعلم ما يوسوس به صدر الانسان. فالوسوسة حديث النفس بالشئ في خفى، ومنه قوله " فوسوس إليه الشيطان " (1) ومنه الواسوس كثرة حديث النفس بالشئ من غير تحصيل قال رؤبة: وسوس يدعو مخلصا رب الفلق (2) ثم اخبر تعالى انه أقرب إلى الانسان من حبل الوريد. قال ابن عباس ومجاهد: الوريد عرق في الحلق وهما وريدان في العنق: من عن يمين وشمال، وكأنه العرق الذي يرد إليه ما ينصب من الرأس، فسبحان الله الخلاق العليم الذي أحسن الخلق والتدبير، وجعل حبل الوريد العاتق، وهو يتصل من الحلق إلى العاتق هذا العرق الممتد للانسان من ناحيتي حلقه إلى عاتقه، وهو الموضع الذي يقع الرداء عليه لأنه يطلق الرداء من موضعه. قال رؤبة: كان وريديه رشاخلب أي ليف. وقال الحسن: الوريد الوتين: وهو عرق معلق به القلب، فالله تعالى أقرب إلى المرء من قلبه. وقيل: المعنى ونحن أقرب إليه ممن كان بمنزلة حبل الوريد في القرب في أني أعلم به. وقيل: معناه أقرب إليه بما يدركه من حبل الوريد لو كان مدركا. وقيل: ونحن أملك به من حبل الوريد في الاستيلاء عليه، وذلك أن حبل الوريد في حيز غير حيزه. والله تعالى مدرك له بنفسه ومالك له بنفسه. وقوله " إذ يتلقى المتلقيان " (إذ) متعلقة بقوله " ونحن أقرب إليه " حين يتلقى المتلقيان، يعني الملكين الموكلين بالانسان " عن اليمين وعن الشمال قعيد " أي عن يمينه وعن شماله. وإنما وحد " قعيد " لاحد وجهين:

أحدهما: إنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، كما قال الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف (3)

أي نحن بما عندنا راضون، فتقدير الآية عن اليمين قعيد، وعن الشماء قعيد

الثاني: إنه يكون القعيد على لفظ الواحد، ويصلح للاثنين والجمع كالرسول لأنه من صفات المبالغة، وفيه معنى المصدر، كأنه قيل: ذو المراقبة. وقال مجاهد: القعيد الرصيد. وقيل: عن اليمين ملك يكتب الحسنات، وعن الشمال ملك يكتب السيئات - في قول الحسن ومجاهد - وقال الحسن: حتى إذا مات طويت صحيفة عمله وقيل له يوم القيامة " إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " (4) فقد عدل - والله - عليه من جعله حسيب نفسه. وقال الحسن: الحفظة أربعة: ملكان بالنهار وملكان بالليل. وقوله " ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد " أي لا يتكلم بشئ من القول إلا وعنده حافظ يحفظ عليه، فالرقيب الحافظ والعتيد المعد للزوم الامر. وقوله " وجاءت سكرة الموت بالحق " قيل في معناه قولان:

أحدهما: جاءت السكرة بالحق من أمر الآخرة حتى عرفه صاحبه واضطر إليه

والآخر: وجاءت سكرة الموت بالحق الذي هو الموت. وروي ان أبا بكر وابن مسعود كانا يقرءان " وجاءت سكرة الحق بالموت " وهي قراءة أهل البيت عليهم السلام و (سكرة الموت) غمرة الموت التي تأخذه عند نزع روحه فيصير بمنزلة السكران. وقوله " ذلك ما كنت منه تحيد " أي يقال له عند ذلك هذا الذي كنت منه تعرب وتروغ. وقوله " ونفخ في الصور " قيل فيه وجهان:

أحدهما: إنه جمع صورة ينفخ الله في الصور بأن يحييها يوم القيامة

الثاني: ان الصور قرن ينفخ إسرافيل فيه النفخة الأولى فيموت الخلق، والنفخة الثانية فيحيون يوم القيامة، وهو يوم الوعيد الذي وعد الله أن يعاقب فيه من يكفر به ويعصى أمره، ويثيب من يؤمن به ويمتثل.


1- سورة 20 طه آية 120.

2- مر في 4 / 397.

3- مر في 1 / 172، 203، 263 و 5 / 246، 289 و 8 / 457.

4- سورة 17 الاسرى آية 14.