الآية 46

الآية 46

قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾

ان قيل كيف اخبر الله عمن وصفه بالخشوع بالطاعة، ومدحهم بذلك بأنهم يظنون بأنهم ملاقوا ربهم وذلك مناف لصفة المدح؟قلنا: الظن المذكور في الآية المراد به العلم واليقين قال دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج * سراتهم في الفارسي المسرد

وقال عمير بن طارق:

بان تغتزوا قومي واقعد فيكم * واجعل مني الظن غيبا مرجما (1)

وقال أبو داود (2):

رب هم فرجته بعزيم * وغيوب كشفتها بظنون

وقال المبرد: ليس من كلام العرب: أظن عند زيد مالا، يريد: أعلم لان العلم المشاهد لا يناسب باب الظن وقد أفصح في ذلك أوس بن حجر في قوله:

الا لمعي الذي يظن بك الظن * كأن قد رأي وقد سمعا

وقال آخر:

فالا يأتكم خبر يقين * فان الظن ينقص أو يزبد

وقال بعض الشيوخ: أصل الظن ما يجول في النفس من الخاطر الذي يغلب على القلب، كأنه حديث النفس بالشئ، وتأول جميع ما في القرآن من معنى العلم على هذا وقال الحسن وأبو الغالية ومجاهد وابن جريح: يظنون، أي يوقنون ومثله: " ظننت اني ملاق حسابيه " (3) أي علمت ومثله: " وظنوا ان لا ملجأ من الله إلا إليه " (4)، ومعناه استيقنوا وقوله: " ورأي المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها " (5)، يعني: علموا وقد جاء في القرآن الظن بمعنى الشك كقوله: " ان هم إلا يظنون " (6) وقوله: " ان الظن لا يغني من الحق شيئا " (7) وقال قوم: يحتمل قوله " يظنون " وجها آخرا، وهو انهم يظنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوبهم لشدة اشفاقهم من الإقامة على معصية الله، وهذا وجه مليح، وقد استعبده الرماني وقال: لان فيه حذوفا كثيرة، وليس بمنكر إذا كان الكلام محتملا له وقيل أيضا: الذين يظنون انقضاء اجلهم وسرعة موتهم فيكونون ابدا على حذر ووجل، كما يقال لمن مات: لقي الله والظن والشك والتجويز نظائر، إلا أن الظن فيه قوة على أحد الامرين دون الآخر، وحده ما قوي عند الظان كون المظنون على ما ظنه مع تجويزه أن يكون خلافه فبالتجويز ينفصل من العلم، وبالقوة ينفصل من الشك والتقليد وغير ذلك وضد الظن اليقين ويقال ظن ظنا وتظنن تظننا وقال: " وظنوا انهم الينا لا يرجعون " (8) وقوله: " ظننتم ظن السوء " (9) والظنين المتهم، ومصدره الظنة والظنون الرجل السئ الظن بكل أحد، والظنون القليل الخير، والتظني والتظنن بمعنى واحد والظنون البئر التي يظن أن بها ماء ولا يكون فيها شئ، ومظنة الرجل ومظانه حيث يألفه فيكون فيه ومعنى قوله " انهم ملاقوا ربهم " اي ملاقوا جزاء ربهم، فجعل ملاقاة الجزاء ملاقاة له تفخيما وتعظيما لشأن الجزاء وأصل الملاقاة الملاصقة، من قولك التقى الحدان اي تلاصقا، ثم كثر حتى قالوا التقى الفارسان إذا تحاذيا ولم يتلاصقا ومثل ما قلنا في قوله " ملاقوا ربهم ".

قوله تعالى: " فأعقبهم نفاقا نفي قلوبهم إلى يوم يلقونه " (10) معناه يوم يلقون جزاءه، لان المنافقين لا يرون الله عند أحد من أهل الصلاة، وكذلك قوله " ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " (11) معناه إذ وقفوا على جزاء ربهم، لان الكفار لا يرون الله عند أحد من الأمة فان قيل: ما معنى الرجوع ههنا وهم ما كانوا قط في الآخرة فيعودوا إليها؟قيل: راجعون بالإعادة في الآخرة - في قول أبي الغالية - وقيل: يرجعون بالموت كما كانوا في الحال المتقدمة، لأنهم كانوا أمواتا، ثم أحيوا، ثم يموتون، فيرجعون أمواتا كما كانوا: والأول أظهر وأقوى، وقيل: ان معناه: انهم راجعون إلى أن لا يملك أحدهم ضرا ولا نفعا غيره تعالى كما كانوا في بد والخلق، لأنهم في أيام حياتهم قد يملك الحكم عليهم غيرهم، والتدبير لنفعهم وضرهم بين ذلك قوله: " مالك يوم الدين " ومعنى ذلك انهم يقرون بالنشأة الآخرة فجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر رجوعا إليه.

اللغة:

وأصل الرجوع العود إلى الحال الأول يقال رجع الرجل ورجعته وهو أحد ما جاء على فعل وفعلة ويحتمل أن يكون المراد أنهم إليه صائرون كما يقول القائل: رجع الامر إلى فلان وإن كان قط لم يكن له ومعناه صار إليه: وحذفت النون من " ملاقوا ربهم " عند البصريين تخفيفا والمعنى على اثباتها، ومثله قوله: " انا مرسلوا الناقة " (12) " وكل نفس ذائقة الموت " (13) قال الشاعر:

هل أنت باعث دينار لحاجتنا * أو عبد رب اخاعون بن مخراق (14)

ولو أردت معنى الماضي لتعرف الاسم بالإضافة، لم يجز فيه اظهار النون البتة وإذا كان الفعل غير واقع كان اثبات النون هو الوجه دون الإضافة فلو قيل ملاقون كان صوابا قال الأخفش: وجرى حذف النون ههنا للاستثقال كما قال الشاعر في قوله:

فان الذي حانت بفلج دماؤهم * هم القوم كل القوم يا أم خالد (15)

فاسقط النون من الذين استثقالا وقال الأخطل:

ابني كليب ان عمي اللذا * قتلا الملوك وفككا الاغلالا

فاسقط النون وقال الكوفيون: إذا حذف النون فاللفظ الاسم وإذا أثبت وظهر النصب فالمعنى الفعل قال الزجاج: ويجوز كسر الهمزة من قولهم: انهم إليه راجعون، لكن لم يقرأ به أحد على معنى الابتداء ولا يجوز كسر الأولى لان الظن وقع عليها.


1- في الإيرانية: " الذواد ".

2- سورة الحاقة: آية 20.

3- سورة التوبة آية: 119.

4- سورة الكهف آية 54.

5- سورة الجاثية آية: 23.

6- سورة يونس آية: 36.

7- سورة القصص آية: 39.

8- سورة الفتح آية: 12.

9- سورة التوبة آية: 78.

10- سورة آل عمران آية: 106 وسورة الانعام آية: 30 والأعراف: آية 48 والأنفال آية: 35 والأحقاف آية 34.

11- سورة القمر آية 37.

12- سورة آل عمران آية 185 وسورة الأنبياء آية: 35 وسورة العنكبوت آية 57.

13- سيبويه قال صاحب الخزانة: البيت من ابيات سيبويه التي لم يعرف قائلها وقيل هو لبر بن رألان السنبسي وقيل هو لجرير وقيل لتأبط شرا دينار وعبد رب: رجلان.

14- البيت للأشهب بن رميلة سيبويه 1: 96 والبيان 4: 55 وفلج واد بين البصرة وحمى ضربة ومر هذا البيت أيضا في 1: 86.

15- سورة آل عمران آية 110.