الآية 38
قوله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
المعنى:
قد بينا معنى الهبوط فيما مضى (1) بما فيه كفاية وقال الجبائي: الهبوط الأول: هو الهبوط من الجنة إلى السماء، وهذا الهبوط من السماء إلى الأرض وقد يستعمل في غير النزول من مكان عال إلى أسفل. يقال هبط فلان إلى أرض كذا، إذا أتاها، وإن لم يرد به النزول الذي فيه.
إلا أن فيه إيماء إلى هبوط المنزل قال لبيد:
كل بني حرة مصيرهم * قل وإن أكثروا من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن * أمروا يوما فهم للفناء والفند
الفند: الهرب. والاتيان، والمجئ، والاقبال، نظائر ونقيضه: الذهاب والانصراف ويقال: أتى، اتيانا، وأتى أتيا، وتأتى، تأتيا وأتى تأتية وآتيت فلانا على أمره مؤاتاة ولا يقال أتية الا في لغة قبيحة لتيم ودخلت (ما) في قوله مع " ان " التي للجزاء، ليصح دخول النون التي للتوكيد في الفعل ولو أسقطت (ما) لم يجز دخول النون، لأنها لا تدخل في الخبر الواجب الا في القسم، أو ما أشبه القسم كقولك: زبد ليأتينك ولو قلت بغير اللام، لم يجز وكذلك تقول: بعين ما أرينك ولو قلت: بعين أرينك، بغير ما لم يجز فدخول (ما) ههنا كدخول اللام في أنها تؤكد أول الكلام وتؤكد النون آخره.
والامر، والنهي، والاستفهام، تدخل النون فيه وان لم يكن معه (ما) إذا كان الأمر والنهي، مما تشتد الحاجة إلى التوكيد فيه والاستفهام مشبه به إذا كان معناه اخبرني والنون إنما تلحق للتوكيد، فلذلك كان من مواضعها قال الله تعالى: " ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا " (2) فان قيل: أين جواب اما؟وأين جواب من؟قيل: الجزاء وجوابه بمنزلة المبتدأ والخبر، لان الشرط لا يتم الا بجوابه، كما لا يتم المبتدأ الا بخبره ألا ترى، انك لو قلت: إن تقم، وسكتت، لم يجز كما لو قلت: زيد، لم يكن كلاما، حتى نأتي بالخبر.
ولك أن تجعل خبر المبتدأ جملة، وهي أيضا مبتدأ وخبر، كقولك: زيد أبوه منطلق. وكذلك (إن) التي للجزاء، إذا كان الجواب بالفاء، ووقع بعد الفاء الكلام مستأنفا، صلح أن يكون جزاء، وغير جزاء تقول: إن تأتي فأنت محمود ولك أن تقول: إن تأتني.
فمن يكرمك أكرمه. وإن تأتني فمن يبغضك فلا وضيعة عليه وقوله: " إما يأتينكم " شرط، وجوابه الفاء. وما بعد قوله: " فمن "، شرط آخر، وجوابه الذي بعده من قوله: " فلا خوف عليهم ". وهو نظير المبتدأ والخبر الذي يكون خبره مبتدأ وخبرا.
وهذا في مقدمات القياسات، يسمى الشرطية المركبة وذلك أن المقدم فيها إذا وجب، وجب التالي المرتب عليه. و " الهدى " المذكور في الآية يحتمل أمرين:
أحدهما: البيان والدلالة.
والآخر: الأنبياء والرسل وعلى القول الأخير يكون قوله: " قلنا اهبطوا " لآدم وحواء وذريتهما. كما قال: " فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " (3) أي أتينا فينا من الخلق طائعين. وقوله: " فمن تبع هداي ".
اللغة:
فالاتباع، والاقتداء، والاحتذاء، نظائر ونقيض الاتباع: الابتداع تقول: تبعه تباعا وأتبعه اتباعا وتابعه متابعة وتتبع تتبعا واستتبع استتباعا والتابع: التالي ومنه التتبع والتبيع: ما تبع أثر شئ فهو يتبعه والتتبع فعلك شيئا بعد شئ تقول: تتبعت عليه آثاره وفي الحديث: القادة والاتباع والقادة: السادة والاتباع القوم الذين يتبعونهم.
والفوائم، يقال لها تبع. والتبيع من ولد البقر: العجل، لأنه تبع أمه يعدو. وثلاثة أتبعة - الجمع - وبقرة متبع: خلفها تبيع وخادم متبع: معها ولدها يتبعها حيثما أقبلت وأدبرت. وأتبع فلان فلانا وأتبعه الشيطان: إذا تتبعه يريد به شرا كما تبع فرعون موسى.
قال الله تعالى: " فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " (4). وفلان يتبع فلانا: إذا تتبع مساوئه في مهلة والتتابع من الأشياء: إذا فعل هذا في أثر هذا بلا مهلة ومنه تتابعت الأمطار، وتتابعت الأشياء والتبع الظل وأصل الباب كله الاتباع وهو أن يتلو شئ شيئا قوله " فلا خوف عليهم ".
اللغة:
فالخوف والجزع، والفزع نظائر ونقيض الخوف: الا من تقول: خافه، يخافه خوفا وأخافه إخافة وتخوف تخوفا وخوفه تخويفا وطريق مخوف: يخافه الناس وطريق مخيف: تخيف الناس والتخوف: التنقص يقال: تخوفناهم: تنقصناهم ومنه قوله: " أو يأخذهم على تخوف "، أي على تنقص وأصل الباب: الخوف الذي هو الفزع والخوف كله من الضرر يقال: فلان يخاف الأسد، أي يخاف ضرره ويخاف الله، أي يخاف عقابه والحزن، والهم، والغم نظائر ونقيضه السرور يقال: حزن حزنا وحزنه حزنا وتحزن تحزنا وحزن تحزينا والحزن، والحزن، لغتان وحزنني، وأحزنني، لغتان وأنا محزون ومحزن وإذا أفردوا الصوت أو الامر، قالوا: محزن لا غير والحزن من الأرض والدواب: ما فيه خشونة والأنثى: حزنة والفعل: حزن، حزونة وقولهم: كيف حشمك وحزانتك؟أي كيف من تتحزن بأمره وأصل الباب: غلظ الهم وقوله: " فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ".
المعنى:
عمومه يقضي أنه لا يلحقهم خوف أهوال القيامة وهو قول الجبائي وقال ابن أخشيذ: لا يدل على ذلك، لان الله تعالى وصف القيامة بعظم الخوف قال الله تعالى: " إن زلزلة الساعة شئ عظيم " إلى قوله " شديد " (5) ولأنه روي أنه يلجم الناس العرق، وغير ذلك من الشدائد وهذا ليس بمعتمد لأنه لا يمتنع أن يكون هؤلاء خارجين من ذلك الغم وأما الحزن، فلا خلاف أنه لا يلحقهم ومن أجاز الخوف، فرق بينه وبين الحزن، لان الحزن إنما يقع على ما يغلظ ويعظم من الغم والهم، فلذلك لم يوصفوا بذلك ولذلك قال تعالى: " لا يحزنهم الفزع الأكبر " (6) لان ما يلحقهم لا يثبت، ويزول وشيكا قالوا: ويدلك على أن الحزن ما ذكرنا، أنه مأخوذ من الحزن، وهو ما غلط من الأرض فكان ما غلظ من الهم فأما لحوق الحزن والخوف في دار الدنيا، فلا خلاف أنه يجوز أن يلحقهم، لان من المعلوم، أن المؤمنين لا ينفكون منه. و " هداي " بتحريك الياء.
وروي عن الأعرج " هداي " بسكون الياء وهي غلط، إلا أن ينوى الوقف وإنما كرر " اهبطوا " لان أحدهما كان من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض عند أبي علي وقيل: المعنى واحد، وكرر تأكيدا وقيل: هو على تقدير اختلاف حال المعنى، لا اختلاف الأحوال كما يقول: اذهب مصاحبا، اذهب سالما معافى وكأنه على تقدير ذهاب يجامع ذهابا - وإن كانت حقيقة واحدة وإنما كرر " اما " في قوله: إما شاكرا وإما كفورا " (7) ولم يكرر ههنا، لأنها هناك للعطف، وههنا للجزاء.
وإنما هي (إن) ضم إليها (ما) كقوله: " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء " (8) وهداي: مثل هواي. وهي لغة قريش، وعامة العرب وبعض بني سليم يقولون: هوي: مثل: علي، ولدي قال أبو ذؤيب: (9)
سبقوا هوي واعنقوا لهواهم * فتخرموا ولكل جنب مصرع (10)
وروي هدي (11) في الآية عن الجحدي، وابن أبي إسحاق، وعيسى والصواب ما عليه القراء والفرق بين هوي ولدي وعلي، وهو أن إلي وعلي ولدي مما يلزمها الإضافة، وليست بمتمكنة ففصلوا بينها وبين الأسماء المتمكنة، كما فصلوا بين ضمير الفاعل وضمير المفعول، حين قالوا: ضربت فسكنوا لأجل التاء، ولم يسكنوا في ضربك، وإذا الفاعل يلزم الفعل.
1- في آية " 36 " البقرة.
2- سورة الكهف آية 24.
3- حم السجدة آية 12.
4- سورة الأعراف آية 174.
5- سورة الحج آية 1.
6- سورة الأنبياء آية 13.
7- سورة الدهر: آية 3.
8- سورة الأنفال آية 59.
9- الهذلي اسمه خويلد بن خالد بن محرث بن زبيد بن مخزوم ينتهي نسبه لنزار، وهو أحد المخضرمين ممن أدرك الجاهلية والاسلام.
10- لسان العرب. العنق: ضرب من السير السريع تخرموا استأصلوا والبيت من قصيدة يرثي بها أبناءه الخمسة الذين هلكوا في عام واحد.
11- في المطبوعة والمخطوطة (هوي).