الآية 37
الآية 37
قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
قرأ ابن كثير (آدم) بنصب الميم (كلمات) برفع التاء.
اللغة:
يقال: لقي زيد خيرا فيتعدى الفعل إلى مفعول واحد ومنه قوله فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " (1) وقوله: " إذا لقيتم فئة فاثبتوا " (2) و " لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " (3) فإذا ضعفت العين تعدى إلى مفعولين تقول: لقيت زيدا خيرا قال الله تعالى: " ولقاهم نضرة وسرورا " (4) وتقول: لقيت بعض متاعك على بعض، فتعديه إلى مفعول واحد لأنه بناء مفرد لا لأنه منقول ليتعدى إلى مفعولين وتقول: لقيته لقية واحدة في التلاقي واللقيان (5) ولقيته لقاء ولقيانا ولقاة وقوله: " تحيتهم يوم يلقونه سلام " (6) معناه يلقون ثوابه بخلاف قوله: " يلقون غيا " (7).
المعنى:
ومعنى " تلقى آدم من ربه كلمات " تعلمها يقال: تلقيت هذا من فلان أي قبله فهمي من لفظه قال أبو عبيدة: قال أبو مهدية: - وتلا عليه آيات (8) من القرآن قال: تلقيتها من عمي تلقاها من أبي هريرة، تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وآله وأصل الملاقاة الملاصقة، لكنه كثر حتى قيل: لاقى فلان فلانا: إذا قاربه، وإن لم يلاصقه وكذلك تلاقى الجيشان، وتلاقي الفرسان ويقال: تلاقى الخطان أي تماسا وتقول: تلقيت الرجل بمعنى استقبلته وتلقاني: استقبلني فعلى هذا يجوز في العربية رفع ادم، ونصبه، مع رفع الكلمات والاختيار قراءة الأكثر، لان معنى التلقي ههنا القبول فكأنه قال: قبل (9) آدم من ربه كلمات وإنما جاز نصب آدم، لان الافعال المتعدية إلى المفعول به على ثلاثة أقسام:
أحدها: يجوز أن يكون الفاعل له مفعولا به والمفعول به فاعلا نحو أكرم بشر بشرا وشتم زيد عمرا
ثانيها: ومنها لا يكون المفعول به فاعلا، نحو: أكلت الخبز، وسرقت درهما، وأعطيت دينارا، وأمكنني الغرض
وثالثها: ما يكون اسناده إلى الفاعل في المعنى كاسناد إلى المفعول، نحو: أصبت ونلت، وتلقيت تقول: نالني خير، ونلت خيرا، وأصابني خير، وأصبت خيرا ولقيني زيد، ولقيت زيدا وتلقاني، وتلقيته وقال تعالى: " وقد بلغني الكبر " (10) وقال: " وقد بلغت من الكبر عتيا " (11) فعلى هذا الرفع والنصب في المعنى واحد في الآية وإنما أجيز رفع آدم، لان عليه الأكثر وشواهده أكثر كقوله " تلقونه بألسنتكم " (12) واسند الفعل إلى المخاطبين والمفعول به كلام متلقى كما أن الذي تلقى آدم كلام متلقى وكما اسند الفعل إلى المخاطبين فجعل التلقي لهم كذلك يلزم ان يسند الفعل إلى آدم، فيجعل التلقي له دون الكلمات واما على ما قال أبو عبيدة معناه قبل الكلمات، فالكلمات مقبولة، فلا يجوز غير الرفع في آدم ومثل هذا في جواز اضافته تارة إلى الفاعل، وأخرى إلى المفعول كقوله: " لا ينال عهدي الظالمين " (13) وفي قراءة ابن مسعود: " لا ينال عهدي الظالمون " والكلمات جمع كلمة والكلمة: اسم جنس لوقوعه على الكثير والقليل يقولون: قال امرؤ القيس في كلمته يعني في قصيدته وقال قس (14) في كلمته يعنون في خطبته فوقوعها على الكثير نحو ما قلناه ووقوعها (15) على القليل قال سيبويه: قال قد أوقعها على الاسم المفرد، والفعل المفرد، والحرف المفرد فأما الكلام فان سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلفا من هذه الكلم فقال: لو قلت: إن تضرب ناسا لم يكن كلاما وقال أيضا: إنما، فقلت، ونحوه، ما كان كلاما (بل) (16) قولا وأوقع الكلام على المتألف والذي حرره المتكلمون ان حد الكلام ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المنقولة، إذا وقع ممن يصح منه أو من قبله الإفادة ثم ينقسم قسمين: مفيد، ومهمل فالذي أراد سيبويه أنه لا يكون كلاما، أنه لا يكون مفيدا وذلك صحيح فأما تسميته بأنه كلام، صحيح وكيف ولا يكون صحيحا، وقد قسموه إلى قسمين: مهمل، ومفيد، فأدخلوا المهمل الذي لا يفيد في جملة الكلام والكلمة والعبارة، والإبانة، نظائر وبينها فروق والفرق بين الكلمة والعبارة، أن الأظهر في الكلمة هي الواحدة من جملة الكلام - وان قالوا في القصيدة أنها الكلمة - والعبارة تصلح للقليل والكثير وأما الإبانة فقد تكون بالكلام، والحال، وغيرهما من الأدلة: كالإشارة والعلامة، وغير ذلك وأما النطق فيدل على إدارة اللسان بالصوت، وليس كذلك الكلام ولهذا يقولون: ضربته فما تكلم، ولا يقولون: فما نطق، إذا كان صاح وكذلك لا يجوز أن يقال في الله: إنه ناطق وأما اللفظ فهو من قولك: لفظت الشئ: إذا أخرجته من فمك وليس في الكلام مثل ذلك ويقال: كلمته تكليما وكلاما (17) وتكلم تكلما ولذلك لا يجوز أن يقال فيه تعالى لفظ، ولا أنه لافظ والكلم: الجرح والجمع: الكلوم يقال: كلمته أكلمه كلمما، فأنا كالم، وهو مكلوم وكليمك: الذي يكلمك ويقال: كلمة وكلمة (18) لغة تميمية، وقيل إنها حجازية وتميم حكي عنها كلمة بكسر الكاف وتسكين اللام، وحكي تسكين اللام مع فتح الكاف وأصل الباب أنه أثر دال والكلم أثر دال على الجارح والكلام أثر دال على المعنى الذي تحته والمتكلم: من رفع ما سميناه كلاما بحسب دواعيه وأحواله وربما (19) عبر عنه بأنه الفاعل للكلام وليس المتكلم من حله (20) الكلام، لان الكلام يحل اللسان والصدر ولا يوصفان بذلك وقد بينا فساد الكلام النفسي (21) في كتاب العدة، في أصول الفقه وقلنا: إن اختصر ذلك، هل هو إلا الخبر، أو ما معناه معنى الخبر، وإن كان لكل قسم معنى يخصه؟
المعنى:
والكلمات التي تلقاها آدم قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " (22) فان في ذلك اعترافا بالخطيئة، ولذلك وقعت موقع الندم وحقيقته الإنابة وحكي عن مجاهد أنه قال: هو قول آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني، إنك أنت خير (23) الراحمين اللهم (24) لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي، فتب علي إنك أنت التواب الرحيم وروى مثل ذلك عن أبي جعفر عليه السلام وحكي عن ابن عباس: أن آدم قال لربه إذ عصاه: أرأيت أن تبت وأصلحت؟فقال له تعالى: إني راجعك إلى الجنة وكانت هذه الكلمات وروي في أخبارنا: أن الكلمات هي توسله بالنبي عليه السلام وأهل بيته وكل ذلك جائز قوله " فتاب عليه ".
اللغة:
فالتوبة، والإنابة، والاقلاع، نظائر في اللغة وضد التوبة: الاصرار يقال: تاب يتوب توبة، وتوابا واستنابة والله تعالى يوصف بالتواب ومعناه أنه يقبل التوبة عن عباده وأصل التوبة: الرجوع عما سلف، والندم على ما فرط والله تعالى تائب على العبد بقبول توبته والعبد تائب إلى الله بمعنى نادم على معصيته والتائب: صفة مدح لقوله (25): " التائبون العابدون " (26) والتوبة شرطها الندم على ما مضى من القبيح، والعزم على أن لا يعود إلى مثله من القبيح، لأن هذه التوبة هي المجمع على سقوط العقاب عندها، وما عداها فمختلف فيه وقد يقول القائل: قد تبت من هذا الامر أي (27) عزمت على ألا أفعله، وصرت بمنزلة التائب، وذلك مجاز وكل معصية لله تعالى فإنه يجب التوبة منها، والتوبة يجب قبولها، لأنها طاعة فأما إسقاط العقاب عنده فتفضل منه تعالى وقالت المعتزلة ومن وافقها: وذلك واجب وقد بينا الصحيح من ذلك في شرح الجمل والتوبة إذا كانت من ترك ندب عندنا تصح وتكون على وجه الرجوع إلى فعله وعلى هذا تحمل توبة الأنبياء كلهم في جميع ما نطق به القرآن، لأنه قد بينا أنه لا يجوز عليهم فعل القبيح والمطبوع على قلبه له توبة وبه قال أهل العدل وقالت البكرية لا توبة له وهو خطأ، من قبل انه لا يصح تكليفه إلا وهو متمكن من أن يتخلص من ضرر عقابه وذلك لا يتم إلا بأن يكون له طريق إلى إسقاط عقابه وقد وعد الله بذلك - وإن كان تفضلا - إذا حصلت التوبة واختلفوا في التوبة من الغصب، هل تصح مع الإقامة على منع المغصوب؟فقال قوم: لا تصح: وقال آخرون: تصح - وهو الأقوى - إلا أن يكون فاسقا بالمنع، فيعاقب (28) عقاب المانع، وإن سقط عنه عقاب الغصب والصحيح أن القاتل عمدا تصح توبته وقال قوم: لا تصح والتوبة من القتل الذي يوجب القود، قال قوم: لا تصح إلا بالاستسلام لولي المقتول، وحصول الندم، والعزم على أن لا يعود وقال قوم آخرون: تصح التوبة من نفس القتل، ويكون فاسقا بترك الاستسلام وهذا هو الأقوى، واختاره الرماني فاما التوبة من قبيح بفعل آخر، فلا تصح على أصلنا كالتائب من الالحاد بعبادة المسيح وقال قوم: تصح وأجراه مجرى معصيتين يترك بإحداهما الأخرى، فإنه لا يؤاخذ بالمتروكة وقال قوم: التوبة من اعتقاد جهالة إذا كان صاحبها لا يعلم أنها معصية بأنه يعتقد انه لا محجوج إلا عارف، فإنه يتخلص من ضرر تلك المعصية إذا رجع عنها إلى المعرفة، وإن لم يوقع معها توبة وقال آخرون: لا يتخلص إلا بالتوبة، لأنه محجوج فيه، مأخوذ بالنزوع عن الإقامة عليه، وهو الأقوى فأما ما نسي من الذنوب، فإنه يجري مجرى التوبة منه على وجه الجملة وقال قوم: لا يجري وهو خطأ، لأنه ليس عليه في تلك الحال أكثر مما عمل فأما ما نسي من الذنوب مما لو ذكر، لم يكن عنده معصية وهل يدخل في الجملة إذا أوقع التوبة من كل خطيئة؟قال قوم: يدخل فيها وقال آخرون لا يدخل فيها، لكنه يتخلص من ضرر (29) المعصية، لأنه ليس عليه أكثر مما علم في تلك الساعة والأول أقوى، لان العبد إذا لم يذكر صرف توبته إلى كل معصية هي في معلوم الله معصية فأما المشرك إذا كان يعرف قبل توبته بفسق - إذا تاب من الشرك - هل يدخل فيه التوبة من الفسق في الحكم، وإن لم يظهر التوبة منه؟قال قوم: لا يزول عنه حكم الفسق، وهو قول أكثر المعتزلة وقال قوم: يزول عنه حكم الفسق وقال الاخشيد: القول في هذا باجتهاد والذي يقوى في نفسي انه يزول، لان الاسلام الأصل فيه العدالة إلى أن يتجدد منه بعد الاسلام ما يوجب تفسيقه فأما التوبة من قبيح مع الإقامة على قبيح آخر، يعلم ويعتقد قبحه، فعند أكثر من تقدم صحيحة وقال أبو هاشم، وأصحابه: لا تصح وقد قلنا ما عندنا في ذلك، في شرح الجمل واعتمد الأولون على أن قالوا: كما يجوز ان يمتنع من قبيح لقبحه، ويفعل قبيحا آخرا، وإن علم قبحه كذلك جاز ان يندم من القبيح، مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه وهذا إلزام صحيح معتمد واختلفوا في التوبة عند ظهور اشراط الساعة، هل تصح أم لا؟فقال الحسن: يحجب عنها عند الآيات الست.
ورواه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: بادروا الاعمال قبل ست: طلوع الشمس من مغربها: والدجال، والدخان ودابة الأرض، وخويصة أحدكم يعني الموت، وأمر العامة يعني القيامة. وقال قوم: لا شك أن بعض الآيات يحجب، وباقيها محجوز. وهو الأقوى.
وقوله: " فتاب عليه " يعني قبل توبته، لأنه لما عرضه للتوبة، بما ألقاه من الكلمات فعل التوبة، وقبلها الله تعالى منه (وقيل تاب عليه أي وفق للتوبة وهداه إليها) (30) فقال اللهم تب علي أي وفقني للتوبة. (فلقنه الكلمات حتى قالها فلما قالها قبل توبته). (31) وقوله: " إنه هو التواب الرحيم " إنما ذكر الرحيم، ليدل بذلك على أنه متفضل بقبول التوبة، ومنعم به، وأن ذلك ليس هو على وجه الوجوب، على ما يقوله المخالف. ومن خالف في ذلك يقول: لما ذكر التواب بمعنى الغفار باسقاط العقوبة، وصل ذلك بذكر النعمة، ليدل على أنه مع إسقاط العقوبة، لا يخلي العبد من النعمة الحاصلة ترغيبا له، وفي الإنابة والرجوع إليه بالتوبة.
" وتواب " بمعنى أنه قابل التوبة. لا يطلق إلا عليه تعالى، ولا يطلق في الواحد منا. وإنما قال: " فتاب عليه ". ولم يقل فتاب عليهما، لأنه اختصر، كما قال: " والله ورسوله أحق أن يرضوه " (32) ومعناه أن يرضوهما.
كذلك معنى الآية فتاب عليهما ومثل ذلك قوله: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " (33) وقال الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريئا، ومن جول الطوي رماني (34)
وقال آخر:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف (35)
وحكي عن الحسن، أنه قال: لم يخلق الله آدم إلا للأرض، ولو لم يعص لخرج على غير تلك الحال.
وقال غيره: يجوز أن يكون خلقه للأرض إن عصى ولغيرها ان لم يعص وهو الأقوى لان ما قاله لا دليل عليه وروي عن قتادة: ان اليوم الذي قبل الله توبة آدم فيه يوم عاشوراء ورواه أيضا أصحابنا.
1- سورة محمد: آية 4.
2- سور الأنفال آية 46.
3- سورة الكهف: آية 63.
4- سورة الدهر: آية 11.
5- في المخطوطة (والقتال).
6- سورة الأحزاب: 44.
7- سورة مريم: 59.
8- في المخطوطة (الآية).
9- في المخطوطة (لقي).
10- سورة آل عمران: آية 4.
11- سورة مريم: آية 7.
12- سورة النور: آية 15.
13- سورة البقرة: آية 124.
14- في المخطوطة (قيس).
15- في المطبوعة (وقوعها).
16- في المخطوطة والمطبوعة بدون (بل) ولا يستقيم السياق بدونها.
17- في المخطوطة (تكلما وتكلما).
18- في المخطوطة " وكلم ".
19- في المخطوطة " قديما ".
20- في المخطوطة " من جملة ".
21- في المخطوطة " النفسي " ساقطة.
22- سورة الأعراف: آية 22 و 148.
23- في المخطوطة " أرحم ".
24- في المخطوطة " اللهم " ساقطه.
25- في المخطوطة " كقوله ".
26- سورة التوبة: آية 113.
27- في المخطوطة " يعين " بدل أي.
28- في المطبوعة والمخطوطة " يعاقب " بدون الفاء.
29- في المخطوطة " ضرب ".
30- ز نا ما بين القوسين وهو موجود في مجمع البيان ص 89 م 1 تفسير نفس الآية والسياق هنا يقتضي ذلك.
31- ز نا ما بين القوسين وهو موجود في مجمع البيان ص 89 م 1 تفسير نفس الآية والسياق هنا يقتضي ذلك.
32- سورة التوبة: آية 64.
33- سورة الجمعة آية 11.
34- قال ابن بري: البيت لابن أحمر قال: وقيل هو للأزرق بن طرفة بن العمرد " بفتح العين وفتح الميم وتشديده " الفراصي الجول: جانب البئر. الطوي: البئر، لأنها تطوى بالحجارة. ومعنى البيت: رماني بأمر عاد عليه قبحه، لان الذي يرمي من جول البئر يعود ما رمى به عليه ويروى: ومن اجل الطوي قال وهو الصحيح - لسان العرب -.
35- البيت لقيس بن الخطبم، شاعر جاهلي، قتل أبوه وهو صغير فلما بلغ قتل قاتل أبيه ونشأت بسبب ذلك حروب بين قومه وبين الخزرج وله ولد اسمه ثابت وهو من الصحابة، شهد مع علي - ع - صفين والجمل والنهروان.