الآيات 11-15

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾

القراءة:

قرا أهل البصرة (لا يألتكم) بالهمزة. الباقون (لا يلتكم) بلا همزة، وهما لغتان، يقال: ألت يألت إذا أنقص، ولات يليت مثل ذلك. وفى المصحف بلا الف وقال الشاعر:

وليلة ذات ندى سريت * ولم يلتني عن سراها ليت (1)

ومعنى الآية لا ينقصكم من أعمالكم شيئا، ومنه قوله (وما ألتناهم من عملهم من شئ) (2) أي ما نقصناهم. وقرأ يعقوب (ميتا) بالتشديد. الباقون بالتخفيف. والتشديد الأصل، وهو مثل سيد وسيد. يقول الله مخاطبا للمؤمنين الذين وحدوده وأخلصوا العبادة له وصدقوا نبيه وقبلوا ما دعاهم الله إليه (لا يسخر قوم من قوم) ومعناه لا يهزأ به ويتلهى منه، وقال مجاهد: لا يسخر غني من فقير لفقره بمعنى لا يهزأ به، والسخرية بالاستهزاء ولو سخر المؤمن من الكافر احتقارا له لم يكن بذلك مأثوما، فأما في صفات الله، فلا يقال إلا مجازا كقوله (فانا نسخر منكم كما تسخرون) (3) معناه إنا نجازيكم جزاء السخرية. ثم قال (عسى أن يكونوا خيرا منهم) لأنه ربما كان الفقير المهين في ظاهر الحال خيرا عند الله وأجل منزلة وأكثر ثوابا من الغني الحسن الحال. وقال الجبائي: يجوز ان يكونوا خيرا منهم في منافع الدنيا، وكثرة الانتفاع بهم. وقوله (ولا نساء من نساء) أي ولا يسخر نساء من نساء على هذا المعنى (عسى أن يكن خيرا منهن) ويقال: هذا خير من هذا بمعنى أنفع منه في ما يقتضيه العقل، وكذلك كان نسب رسول الله صلى الله عليه وآله خير من نسب غيره، ثم قال (ولا تلمزوا أنفسكم) فالمز هو الرمي بالعيب لمن لا يجوز ان يؤذى بذكره، وهو المنهي عنه، فأما ذكر عيبه، فليس بلمز، وروي انه صلى الله عليه وآله قال (قولوا في الفاسق ما فيه كي يحذره الناس) وقال الحسن: في صفة الحجاج أخرج الينا نباتا قصيرا قل ما عرفت فيها إلا عنه في سبيل الله ثم جعل يطبطب بشعيرات له، ويقول: يا با سعيد. ولو كان مؤمنا لما قال فيه ذلك. وقال ابن عباس وقتادة: معناه لا يطعن بعضكم على بعض كما قال (ولا تقتلوا أنفسكم) (4) لان المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتله أخاه قاتل نفسه. وقوله (ولا تنابزوا بالألقاب) قال أبو عبيدة: الانباز والألقاب واحد فالنبز القذف باللقب، نهاهم الله أن يلقب بعضهم بعضا. وقال الضحاك: معناه كل اسم أو صفة يكره الانسان أن يدعى به، فلا يدع به. وإنما يدعى بأحب أسمائه إليه. وقوله (بئس الاسم الفسوق بعد الايمان) لا يدل على أن المؤمن لا يكون فاسقا لان الايمان والفسق لا يجتمعان، لان ذلك يجري مجرى ان يقال: بئس الحال الفسوق مع الشيب على أن الظاهر يقتضي ان الفسوق الذي يتعقب الايمان بئس الاسم، وذلك لا يكون إلا كفرا، وهو بئس الاسم. ثم قال (ومن لم يتب) يعني من معاصيه ويرجع إلى طاعة الله ومات مصرا (فأولئك هم الظالمون) الذين ظلموا نفوسهم بأن فعلوا ما يستحقون به العقاب. ثم خاطبهم أيضا فقال (يا أيها الذين آمنوا) أي صدقوا بوحدانيته (اجتنبوا كثيرا من الظن) وإنما قال (كثيرا) لان في جملته ما يجب العمل عليه، ولا يجوز مخالفته. وقوله (ان بعض الظن أثم) فالظن الذي يكون إثما إنما هو ما يفعله صاحبه وله طريق إلى العلم بدلا منه مما يعمل عليه، فهذا ظن محرم لا يجوز فعله، فأما مالا سبيل له إلى دفعه بالعلم بدلا منه، فليس باثم، فلذلك كان بعض الظن أثم، دون جميعه، والظن المحمود قد بينه الله ودل عليه في قوله (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) (5): يلزم المؤمن أن يحسن الظن به ولا يسئ الظن في شئ يجد له تأويله جميلا، وإن كان ظاهره القبيح. ومتى فعل ذلك كان ظنه قبيحا. وقوله (ولا تجسسوا) أي لا تتبعوا عثرات المؤمن - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - وقال أبو عبيدة التجسس والتجسس واحد وهو التبحث يقال: رجل جاسوس، والجاسوس والناموس واحد. وقيل للمؤمن حق على المؤمن ينافي التجسس عن مساوئه. وقيل: يجب على المؤمن أن يتجنب ذكره المستور عند الناس بقبيح، لان عليهم أن يكذبوه ويردوا عليه، وإن كان صادقا عند الله، لان الله ستره عن الناس، وإنما دعى الله تعالى المؤمن إلى حسن الظن في بعضهم ببعض للألفة والتناصر على الحق، ونهوا عن سوء الظن لما في ذلك من التقاطع والتدابر. وقوله (ولا يغتب بعضكم بعضا) فالغيبة ذكر العيب بظهر الغيب على وجه تمنع الحكمة منه. ويروى في الخبر إذا ذكرت المؤمن بما فيه مما يكرهه الله، فقد اغتبته وإذا ذكرته بما ليس فيه، فقد بهته. وقوله (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) معناه ان من دعي إلى اكل لحم أخيه فعافته نفسه، فكرهته من جهة طبعه، فإنه ينبغي إذا دعي إلى عيب أخيه فعافته نفسه من جهة عقله، فينبغي أن يكرهه، لان داعي العقل أحق بأن يتبع من داعي الطبع لان داعي الطبع أعمى وداعي العقل بصير، وكلاهما في صفة الناصح، وهذا من أحسن ما يدل على ما ينبغي ان يجتنب من الكلام. وفي الكلام حذف، وتقديره أيحب أحدكم ان يأكل لحم أخيه ميتا فيقولون: لا، بل عافته نفوسنا، فقيل لكم فكرهتموه، فحذف لدلالة الكلام عليه. وقال الحسن: معناه فكما كرهتم لحمه ميتا فأكرهوا غيبته حيا، فهذا هو تقدير الكلام. وقوله (واتقوا الله) معطوف على هذا الفعل المقدر، ومثله (ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك) (6) والمعنى ألم نشرح، قد شرحنا فحمل الثاني على معنى الأول، لأنه لا يجوز ان يقول ألم وضعنا عنك. ثم قال (واتقوا الله) باجتناب معاصيه وفعل طاعاته (ان الله تواب) أي قابل لتوبة من يتوب إليه (رحيم) بهم. ثم قال (قالت الاعراب آمنا) قال قتادة: نزلت الآية في اعراب مخصوصين انهم قالوا (آمنا) أي صدقنا بالله وأقررنا بنبوتك يا محمد، وكانوا بخلاف ذلك في بواطنهم، فقال الله تعالى لنبيه (قل) لهم (لن تؤمنوا) على الحقيقة في الباطن (ولكن قولوا أسلمنا) أي استسلمنا خوفا من السبي والقتل - وهو قول سعيد بن جبير وابن زيد - ثم بين فقال (ولما يدخل الايمان في قلوبكم) بل أنتم كفار في الباطن. ثم قال لهم (وإن تطيعوا الله ورسوله) وترجعوا إلى ما يأمرانكم به من طاعة الله والانتهاء عن معاصيه (لا يلتكم من أعمالكم شيئا) أي لا ينقصكم من جزاء أعمالكم شيئا (ان الله غفور رحيم) أي ساتر لذنوبهم إذا تابوا رحيم بهم في قبول توبتهم. ثم وصف المؤمن على الحقيقة فقال (إنما المؤمنون) على الحقيقة (الذين آمنوا بالله) وصدقوا وأخلصوا بتوحيده (ورسوله) أي وأقروا بنبوة نبيه (ثم لم يرتابوا) أي لم يشكوا في شئ من أقوالهما (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) ثم قال (أولئك هم الصادقون) في أقوالهم دون من يقول بلسانه ما ليس في قلبه. وقوله " يا أيها الناس " خطاب للخلق كافة من ولد آدم يقول لهم " إنا خلقناكم " بأجمعكم " من ذكر وأنثى " يعني آدم وحوا عليهما السلام وقال مجاهد: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة بدلالة الآية " وجعلناكم شعوبا وقبائل " فالشعوب النسب الابعد، والقبائل الأقرب - في قول مجاهد وقتادة - وقيل الشعوب أعم، والقبائل أخص. وقال قوم: الشعوب الافخاذ والقبائل أكثر منهم. والشعوب جمع شعب، وهو الحي العظيم، والقبائل مأخوذ من قبائل الرأس، وقبائل الحقبة التي يضم بعضها إلى بعض، فاما الحي العظيم المستقر بنفسه فهو شعب، قال ابن احمر:

من شعب همدان أو سعد العشيرة أو * خولان أو مذحج جواله طربا (7)

والقبائل جمع قبيلة، وقوله " لتعارفوا " معناه جعلكم كذلك لتعارفوا، فيعرف بعضكم بعضا. ومن قرأ بالياء مشددة، أدغم أحداهما في الأخرى، ومن خفف حذف أحداهما. ثم قال " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " لمعاصيه، وأعملكم بطاعته قال البلخي: اختلف الناس في فضيلة النسب، فأنكرها قوم، وأثبتها آخرون والقول عندنا في ذلك أنه ليس أحد أفضل من مؤمن تقي، فان الحسب والنسب والشرف لا يغنيان في الدين شيئا، لان لهما فضلا كفضل الخز على الكرباس والكتان على البهاري وكفضل الشيخ على الشاب. فان الطبائع مبنية والاجماع واقع على بأن شيخا وشابا لو استويا في الفضل في الدين لقدم الشيخ على الشاب وزيد في تعظيمه وتبجيله، وكذلك الأب والابن لو استويا في الفضل في الدين لقدم الأب، وكذلك السيد وعبده. وهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء، وكذلك لو أن رجلين استويا في الدين ثم كان أحدهما له قرابة برسول الله أو بالخيار الصالحين لوجب أن يقدم المتصل برسول الله وبالصالح، ويزاد إكرامه في تعظيمه وتبجيله، وكذلك إذا استويا وكان في آباء أحدهما أنبياء ثلاثة وأربعة، وكان في آباء الآخر نبي واحد كان الأول مستحقا للتقديم، وكذلك لو كان لأحدهم أب نبي إلا أنه من الأنبياء المتقدمين، وكان أبو الآخر هو النبي الذي بعث الينا كان الثاني أعظم حقا وأحق بالتقديم، وكذلك لو كان أحدهما له آباء معروفون بالفضل والأخلاق الجميلة والافعال الشريفة وبالوقار وبالنجدة والأدب والعلم كانت الطبايع مبنية على تقديمه على الآخر. فان قيل: الطبائع مبنية على تقديم ذوي المال فيجب أن يكون الغنى وكثرة المال شرفا. قلنا: كذلك هو لا ننكر هذا ولا ندفعه. فان قيل: إذا كان لأحدهما مال لا يبذل، والآخر قليل المال يبذل قدر ما يملكه من الحقوق ويضعه في مواضعه؟قلنا الباذل أفضل من الذي لا يبذل. وإنما تكلمنا في الرجلين إذا استويا في خصالهما وفضل أحدهما كثرة المال وكان واضعا له في موضعه باذلاله في حقوقه وكذلك لو أن رجلا كان ذا حسب وشرف في آبائه إلا أنه كان فاسقا أو سخيفا أو وضيعا في نفسه كان الذي لا حسب له وهو عفيف نبيل أفضل منه بالأوصاف التي لا تخفى. وكان حسب ذلك السخيف مما يزيده وبالا، ومعنى الحسب أنه يحسب لنفسه آباء أشرافا فضلا، وعمومة وأخوة - انتهى كلام البلخي -. وقوله " إن الله عليم خبير " يعني بمن يعمل طاعاته ويتقي معاصيه " خبير " بذلك لا يخفى عليه شئ من ذلك. ثم وصف المؤمنين الذين تقدم ذكرهم فقال " أولئك هم الصادقون " على الحقيقة الذين يستحقون ثواب الله تعالى.


1- تفسير الطبري 26 / 82 وقد مر في 6 / 445.

2- سورة 52 الطور آية 21.

3- سورة 11 هود آية 38.

4- سورة 4 النساء آية 28.

5- سورة 24 النور آية 12.

6- سورة 94 الانشراح آية 1 - 2.

7- الطبري 26 / 80 نسبة إلى ابن عمر الباهلي وروايته (هاجرا له) بدل (جواله).