الآية 32

قوله تعالى: ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

المعنى:

هذه الآية فيها اخبار من الله تعالى عن ملائكته بالرجوع إليه، والاوبة، والتسليم انهم لا يعلمون إلا ما علمهم الله وقوله: " سبحانك " نصب على المصدر ومعناه نسبحك وسبحانك مصدر لا ينصرف وقدمنا في ما مضى أن معنى التسبيح التنزيه ومعناه هاهنا تبريا منهم أن يعلموا الغيب واقرارا أنه المختص به تعالى دون غيره وقوله: " العليم الحكيم " معنى عليم أنه عالم وفيه مبالغة ومن صفات ذاته وإذا كانت كذلك، أفادت انه عالم بجميع المعلومات ويوصف به في ما لم يزل، لان ذلك واجب في العالم نفسه وقوله: " الحكيم " يحتمل أمرين:

أحدهما: انه عالم، لان العالم بالشئ يسمى بأنه حكيم فعلى هذا يكون من صفات الذات مثل العالم وقد بيناه

والثاني: أن يكون من صفات الافعال ومعنى ذلك أن افعاله محكمة متقنة صواب ليس فيها وجه من وجوه القبح ولا التفاوت ولا يوصف بذلك في ما لم يزل وروي عن ابن عباس أنه قال: العليم الذي كمل علمه والحكيم: الذي كمل في حكمته وقد قيل في معنى حكيم: انه المانع من الفساد ومنه سميت حكمة اللجام لأنها تمنع الفرس من الجري الشديد قال جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم * إني أخاف عليكم ان اغضبا

أي امنعوهم والاحكام والاتفاق والاتساق والانتظام متقاربة والحكمة نقض السفه يقال: حكم حكما واحكم إحكاما ويقال: أحكم فلان عمله إذا بالغ فيه فأصاب حقيقته والحكمة هي التي تقف بك على مر الحق الذي لا يخلطه باطل، والصدق الذي لا يشوبه كذب ومنه قوله: " حكمة بالغة " (1) والحكم بين الناس هو الذي يرضى به ليقف الأشياء مواضعها ومنه قوله: " فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " (2) والحاكم القاضي بين الناس، وليقفهم على الحق ويقال: رجل حكيم إذا كان ذلك شانه وكانت معه أصول من العلم والمعرفة، وإذا حكم بين الرجلين يقال: حكم يحكم وإذا صار حكيما قيل: حكم يحكم وامر مستحكم إذا لم يكن فيه مطعن وفي الحديث في رأس كل عبد حكمة إذا هم بسيئة وشاء الله ان يقدعه بها قدعة يعني منعه والحكم في الانسان هي العلم الذي يمنع صاحبه من الجهل ومعنى قول الملائكة " سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا " يحتمل أمرين:

أحدهما: ما قدمنا وهو قول ابن عباس قال: " سبحانك " تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب سواه

والثاني: انهم أرادوا أن يخرجوا مخرج التعظيم لله فكأنهم قالوا: تنزيها لك عن القبائح فعلى هذا الوجه يحسن - وإن لم يعلقه بعلم الغيب كما علق في الأول - وفي الناس من استدل بهذه الآية على بطلان الاحكام في النجوم وهذا يمكن أن يكون دلالة على من يقول: إنها موجبات لا دلالات فأما من يقول: إنها دلالات على الاحكام نصبها الله فإنه يقول: نحن ما علمنا إلا ما علمنا الله، إنه الذي جعل النجوم أدلة لنا كما أن ما علمناه استدلال غير ضرورة مضاف إليه أيضا من حيث نصب الدلالة عليه واستدل جماعة من المفسرين بهذه الآية، والآيتين قبلها على صدق النبي صلى الله عليه وآله وجعلوها من جملة معجزاته إذ كان إخبارا بما لا تعلمه العرب ولا يوصل إليه إلا بقراءة الكتب والنبي (عليه السلام) لم يعرف بشئ من ذلك مع العلم بمنشئه ومبتدء أمره ومنتهاه وهذا يمكن أن يذكر على وجه التأكيد والتقوية، لآياته ومعجزاته من غير أن يكون لو انفرد لكفى في باب الدلالة لان لقائل أن يقول: إنه قرأ الكتب سرا، واخذ عمن قرأها خفيا فلا طريق للقطع على ذلك وإنما تغلب في الظن فان قيل: ما الفائدة في الجواب بقولهم: " لا علم لنا إلا ما علمتنا "؟قلنا: لو اقتصروا على قولهم: " لا علم "، لكان كافيا، لكن أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك التعظيم والاعتراف بأن جميع ما يعلمونه من تعليمه، وان هذا ليس من جملة ذلك، واختصار ذلك أدل على الشكر لنعمه وقيل في معنى " عليم " أمران:

أحدهما: انه عليم بغير تعليم بدلالة انهم أثبتوا لله ما نفوه عن أنفسهم بقولهم: " لا علم لنا إلا ما علمتنا " أي نحن معلمون وأنت العليم غير المعلم.

والثاني: انه العليم الحكيم وكلاهما حسن والأول أحسن، لأنه أكثر فائدة، وأولى في تقابل البلاغة وقد تضمنت الآية الدلالة عليه انه لا علم له الا ما علمه الله اما بالضرورة وإما بالدلالة.

1- سورة القمر: آية 5.

2- سورة النساء: آية 34.