الآيات 26-29
قوله تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير إلا ابن فليح " شطأه " بفتح الطاء ومثله ابن ذكوان. الباقون باسكانها. وقرأ أهل الشام " فازره " مقصور، الباقون بالمد، وهما لغتان من فعل الشئ وفعله غيره نحو كسبت مالا وكسبني غيري، ونزحت البئر ونزحتها ويقال: أزر النبت وآزره غيره. وقوله " إذ جعل " متعلق بقوله " لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية " يعني الانفة. ثم فسر تلك الانفة، فقال " حمية الجاهلية " الأولى يعني عصبتهم لآلهتم من أن يعبدوا غيرها. وقال الزهري: هي أنفتهم من الاقرار لمحمد بالرسالة. والاستفتاح ب? (بسم الله الرحمن الرحيم) على عادته في الفاتحة، حيث أراد ان يكتب كتاب العهد بينهم. ودخولهم مكة لأداء العمرة. ثم قال تعالى " فأنزل الله سكينته على رسوله " أي فعل به صلى الله عليه وآله من اللطف والنعمة ما سكنت إليه نفسه وصبر على الدخول تحت ما أرادوه منه " وعلى المؤمنين " أي ومثل ذلك فعل بالمؤمنين " وألزمهم كلمه التقوى " قال ابن عباس وقتادة: كلمة التقوى قول: لا إلا إلا الله محمد رسول الله. وقال مجاهد: هي كلمة الاخلاص " وكانوا أحق بها وأهلها " يعني المؤمنين كانوا أهلها أحق بها. قال الفراء: ورأيتها في مصحف الحارث بن سويد التميمي من أصحاب عبد الله (وكانوا أهلها أحق بها) وهو تقديم وتأخير، وكان مصحفه دفن أيام الحجاج. وقيل: ان التقدير كانوا أحق بنزول السكينة عليهم وأهلا لها. وقيل: المعنى فكانوا أحق بمكة أن يدخلوها وأهلها. وإنما قال " أحق " لأنه قد يكون حق أحق من حق غيره، لان الحق الذي هو طاعة يستحق به المدح أحق من الحق الذي هو مباح لا يستحق به ذلك " وكان الله بكل شئ عليما " لما ذم الكفار تعالى بحمية الجاهلية ومدح المؤمنين بالسكينة والزوم الكلمة الصادقة بين علمه ببواطن أمورهم وما تنطوي عليه ضمائرهم إذ هو العالم بكل شئ من المعلومات. وقوله " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام " قسم من الله تعالى ان النبي صلى الله عليه وآله صادق في قوله إنه رأى في المنام انه يدخل هو والمؤمنون المسجد الحرام، وانه لابد من كون ذلك. وقوله " إن شاء الله آمنين " قال قوم تقييد لدخول الجميع أو البعض. وقال قوم: ليس ذلك شرطا لأنه بشارة بالرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وآله وطالبه الصحابة بتأويلها وحققها. قوله " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " ثم استؤنف على طريق الشرح والتأكيد " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله " على ألفاظ الدين، كأنه قيل بمشيئة الله، وليس ينكر أن يخرج مخرج الشرط ما ليس فيه معنى الشرط، كما يخرج مخرج الامر ما ليس في معنى الامر لقرينة تصحب الكلام. وقال البلخي: معنى " إن شاء الله " أي أمركم الله بها، لان مشيئة الله تعالى بفعل عباده هو أمره به. وقال قوم: هو تأديب لنا، كما قال " ولا تقولن لشئ.. " (1) الآية. وقوله " آمنين " أي بلا خلاف عليكم " محلقين رؤوسكم ومقصرين " أي منكم من يحلق رأسه ومنكم من يقصر " لا تخافون " أحدا في ذلك، وكذلك جرى الامر في عمرة القضاء وفي السنة الثانية للحديبية، وروي أن عمر قال لرسول الله صلى الله عليه وآله حيث قاضا أهل مكة يوم الحديبية، وهم بالرجوع إلى المدينة: أليس وعدتنا يا رسول الله أن تدخل المسجد الحرام محلقين ومقصرين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله (قلت لكم إنا ندخلها العلم) ؟! فقال: لا، فقال صلى الله عليه وآله (فإنكم تدخلونها إن شاء الله) فلما كان في القابل في ذي القعدة خرج النبي صلى الله عليه وآله لعمرة القضاء، ودخل مكة مع أصحابه في ذي القعدة واعتمروا، وقام بمكة ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة. ثم قال " فعلم " يعني علم الله " وما لم تعلموا " أنتم من المصلحة في المقاضاة وإجابتهم إلى ذلك. وقيل المعنى فعلم النبي صلى الله عليه وآله من دخولهم إلى سنة ما لم تعلموا معاشر المؤمنين. وقيل: فعلم أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم " فجعل من دون ذلك فتحا قريبا " قال ابن زيد: يعني بذلك فتح خيبر. وقال الزهري: هو فتح الحديبية. ثم قال تعالى " هو الذي ارسل رسوله " يعني محمدا صلى الله عليه وآله " بالهدى يعني الدليل الواضح، والحجة البينة " ودين الحق " يعني الاسلام وإخلاص العبادة " ليظهره على الدين كله " قيل بالحجج والبراهين. وقيل: لان الاسلام ظاهر على الأديان كلها. وقيل: إنه إذا خرج المهدي صار الاسلام في جميع البشر، وتبطل الأديان كلها. ثم قال (وكفى بالله شهيدا) بذلك من إظهار دين الحق على جميع الأديان. ثم اخبر تعالى فقال (محمد رسول الله) صلى الله عليه وآله ارسله إلى خلقه (والذين معه) من المؤمنين يعني المصدقين بوحدانية الله المعترفين بنبوته الناصرين له (أشداء على الكفار) لأنهم يقاتلونهم ويجاهدونهم بنية صادقة (رحماء بينهم) أي يرحم بعضهم بعضا ويتحنن بعضهم على بعض (تراهم ركعا سجدا) لقيامهم بالصلاة والاتيان بها، فهم بنى راكع وساجد (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) اي يلتمسون بذلك زيادة نعيمهم من الله ويطلبون مرضاته من طاعة وترك معصية (سيماهم في وجوههم من اثر السجود) قال ابن عباس: اثر صلاتهم يظهر في وجوههم. وقال الحسن. هو السمت الحسن. وقال قوم: هو ما يظهر في وجوههم من السهر بالليل. وقال مجاهد: معناه علامتهم في الدنيا من اثر الخشوع. وقيل: علامة نور يجعلها الله في وجوههم يوم القيامة - في قول الحسن وابن عباس وقتادة وعطية - و (ذلك مثلهم في التوراة) اي وصفهم، كأنه مثلهم في التوراة (ومثلهم في الإنجيل) اي وصفهم الله في الإنجيل (كمثل زرع اخرج شطأه) يشبههم بالزرع الذي ينبت في حواليه بنات ويلحق به، فالشطأ فراخ الزرع الذي ينبت في جوانبه ومنه شاطئ النهر جانبه، يقال أشطأ الزرع، فهو مشطئ إذا أفرخ في جوانبه " فازره " أي عاونه فشد فراخ الزرع لأصول النبت وقواها يقال أزرت النبت وآزره غيره بالمد، ويقال أزر النبت وازرته مثل رجع ورجعته وقال أبو الحسن: هما لغتان. وقال أبو عبيدة: أزره ساواه فصار مثل الام، وفاعل (آزر) الشطأ أي أزر الشطأ الزرع، فصار في طوله " فاستغلظ " أي صار غليظا باجتماع الفراخ مع الأصول " فاستوى " معه أي صار مثل الام " على سوقه " وهو جمع ساق وساق الشجرة حاملة الشجر، وهو عوده الذي يقوم عليه، وهو قصبته. ومثله قوى المحبة بما يخرج منها، كما قوي النبي صلى الله عليه وآله بأصحابه. وقوله " يعجب الزراع " يعني الذين زرعوا ذلك " ليغيظ بهم الكفار " قيل: معناه ليغيظ بالنبي وأصحابه الكفار المشركين. ووجه ضرب هذا المثل بالزرع الذي أخرج شطأه هو ان النبي صلى الله عليه وآله حين ناداهم إلى دينه كان ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى كثر جمعه وقوي أمره كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ ساقه وفراخه، وكان هذا من أصح مثل وأوضح بيان وقال البلخي: هو كقوله " كمثل غيث أعجب الكفار نباته " (2) يريد بالكفار - ههنا - الزراع واحدهم كافر، لأنه يغطي البذر، وكل شئ غطيته فقد كفرته. ومنه قولهم: تكفر بالسلاح. وقيل: ليل كافر لأنه يستر بظلمته كل شئ قال الشاعر: في ليلة كفر النجوم غمامها (3) أي غطاها. ثم قال " وعد الله الذين آمنوا " يعني من عرف الله ووحده وأخلص العبادة له وآمن بالنبي صلى الله عليه وآله وصدقه " وعملوا " مع ذلك الاعمال " الصالحات منهم " قيل: انه بيان يخصهم بالوعد دون غيرهم. وقيل يجوز أن يكون ذلك شرطا فيمن أقام على ذلك منهم، لان من خرج عن هذه الأوصاف بالمعاصي فلا يتناوله هذا الوعد " مغفرة " أي سترا على ذنوبهم الماضية " وأجرا " أي ثوابا " عظيما " يوم القيامة. وقرأ ابن كثير وحده " على سؤقه " بالهمزة. الباقون بلا همزة، وهو الأصح. قال أبو علي: من همز فعلى قولهم (أحب المؤفدين إلى موسى) واستعمال السوق في الزرع مجاز.
1- سورة 18 الكهف آية 24.
2- سورة 57 الحديد آية 20.
3- مر في 1 / 60.