الآيات 16-20
قوله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا، لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا، وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا، وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾
القراءة:
قرأ أهل المدينة، وابن عامر (ندخله ونعذبه) بالنون على وجه الاخبار من الله عن نفسه. الباقون - بالياء - ردا على اسم الله. يقول الله تعالى لنبيه (قل للمخلفين من الاعراب) أي لهؤلاء المخلفين الذين تخلفوا عنك في الخروج إلى الحديبية (ستدعون) في ما بعد (إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) قال ابن عباس: أولوا البأس الشديد أهل فارس. وقال ابن أبي ليلى والحسن: هم الروم. وقال سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة: هم هوازن بحنين. وقال الزهري: هم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب، وكانوا بهذه الصفة. واستدل جماعة من المخالفين بهذه الآية على إمامة أبي بكر، من حيث إن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم، وكانوا قد حرموا القتال مع النبي صلى الله عليه وآله بدليل قوله (لن تخرجوا معي ابدا، ولن تقاتلوا معي عدوا) وهذا الذي ذكروه غير صحيح من وجهين:
أحدهما: أنه غلط في التاريخ ووقت نزول الآية
الثاني: أنه غلط في التأويل، ونحن نبين فساد ذلك أجمع، ولنا في الكلام في تأويل الآية وجهان:
أحدهما: إنه تنازع في اقتضائها داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي صلى الله عليه وآله ويبين أن الداعي لهم في ما بعد كان النبي صلى الله عليه وآله على ما حكيناه عن قتادة وسعيد ابن جبير في أن الآية نزلت في أهل خبير، وكان النبي صلى الله عليه وآله هو الداعي إلى ذلك.
الآخر: ان يسلم ان الداعي غيره، ونبين انه لم يكن أبا بكر ولا عمر بل كان أمير المؤمنين عليه السلام. فاما الوجه الأول فظاهر، لان قوله (سيقول لك المخلفون) إلى قوله (وكنتم قوما بورا) قد بينا انه أراد به الذين تخلفوا عن الحديبية باجماع المفسرين ثم قال (سيقول المخلفون إذا انطلقتم...) إلى آخر الآية، فبين أن هؤلاء المخلفين سألوا ان يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله من ذلك، وأمر نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهم (قل لن تتبعونا...) إلى هذه القرية، لان الله تعالى حكم من قبل بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية وانه لاحظ فيها لمن لم يشهدها، وهذا هو معنى قوله (يريدون أن يبدلوا كلام الله) وقوله (كذلك قال الله من قبل) ثم قال (قل للمخلفين من الاعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) وإنما أراد الرسول سيدعوهم في ما بعد إلى قتال قوم بهذه الصفة، وقد دعاهم بعد ذلك إلى غزوات كثيرة. وقال قوم: أولي بأس شديد، كموقعه حنين وتبوك وغيرها، فمن أين يجب أن يكون الداعي لهم غير النبي صلى الله عليه وآله فأما قولهم إن معنى قوله (كذلكم قال الله من قبل) هو انه أراد قوله (فان رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) مملوء بالغلط الفاحش في التاريخ، لأنا قد بينا أن هذه الآية التي في التوبة نزلت ب? (تبوك) سنة تسع. وآية سورة الفتح نزلت سنة ست، فكيف تكون قبلها، وينبغي لمن تكلم في تأويل القرآن أن يرجع إلى التاريخ ويراعي أسباب نزول الآية على ما روي، ولا يقول على الآراء والشهوات. وتبين أيضا أن هؤلاء المخلفين غير أولئك، وإن لم يرجع إلى تاريخ. ونقول قوله (فان تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما) فلم يقطع على طاعة، ولا على معصية بل ذكر الوعد والوعيد على ما يتعلق به من طاعة أو معصية وحكم المذكورين فيهم في سورة التوبة، بخلافه لأنه تعالى قال بعد قوله (إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) إلى قوله (وهم كافرون) (1) فاختلاف احكامهم يدل على اختلافهم، وقد حكينا عن سعيد بن جبير أنه قال هذه الآية نزلت في هوازن يوم حنين. وقال الضحاك: هم ثقيف، وقال قتادة: هم هوازن وثقيف، وأما الوجه الذي يسلم معه أن الداعي غير النبي صلى الله عليه وآله فهو ان نقول الداعي أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه قاتل بعده أهل الجمل وصفين وأهل النهروان، وبشره النبي صلى الله عليه وآله بقتالهم، وكانوا أولي بأس شديد، فان قالوا من قاتلهم علي عليه السلام كانوا مسلمين، وفى الآية قال تقاتلونهم أو يسلمون! كيف تتناولهم الآية ؟! قلنا! أول ما نقوله: إنهم غير مسلمين عندنا، ولا عند جميع من خالفنا من المعتزلة، لان عندهم صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، ولا مسلم. وأما مذهبنا في تكفير من قاتل عليا عليه السلام معروف، وقد ذكرناه في كتب الإمامة لقوله صلى الله عليه وآله (حربك يا علي حربي) وغير ذلك من الاخبار والأدلة التي ذكرناها في غير موضع واستوفينا ما يتعلق بذلك في كتاب الإمامة، ويمكن على تسليم أن الداعي أبو بكر وعمر، أن يقال: ليس في الآية ما يدل على مدح الداعي ولا على إمامته، لأنه قد يدعو إلى الحق من ليس عليه، ويجب ذلك من حيث كان واجبا من أجل دعاه الداعي، وأبو بكر دعاهم إلى الدفاع عن الاسلام، وهذا واجب على كل واحد بلا دعاء داع، ويمكن أن يكون المراد بقوله (ستدعون) دعاء الله لهم بايجاب القتال عليهم، لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين ودفعهم عن بيضة الاسلام، وقد دعاهم إلى القتال ووجبت عليهم طاعته، والكلام في هذه الآية كالتي قبلها في أنا إذا قلنا لا تدل على إمامة الرجلين، لا نكون طاعنين عليهما، بل لا يمتنع أن يثبت فضلهما وإمامتهما بدليل غير الآية، لان المحصلين من العلماء يذهبون إلى امامتهما من جهة الاخبار لا من جهة الآية. وقوله (تقاتلونهم أو يسلمون) بالرفع معناه إن أحد الامرين لابد أن يقع لا محالة، وتقديره أوهم يسلمون. وقرئ شاذا بالنصب، والوجه فيه حتى يسلموا ولو نصبه، فقال أو يسلموا لكان دالا على أن ترك القتال من أجل الاسلام. وقوله (ليس على الأعمى حرج..) الآية، فالأعمى هو من لا يبصر بجارحة العين. والأعرج الذي برجله آفة تمنعه من المشي مأخوذ من رفعها عند محاولة المشي بغيرها، ومنه العروج الصعود إلى السماء، والمريض من به علة تمنعه من الحركة من اضطراب في البدن حتى يضعف وتحصل فيه آلام، بين الله تعالى انه ليس على وجه هؤلاء الذين بهم هذه الآفات من ضيق ولا حرج في ترك الحصول مع المؤمنين والحضور معهم في الجهاد. قال قتادة: كل ذلك في الجهاد. ثم قال (ومن يطع الله ورسوله) في ما أمره به ونهاه عنه (يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول) عن اتباعهما وامتثال أمرهما ونهيهما (يعذبه) الله (عذابا أليما) فمن قرأ بالياء رده إلى الله. ومن قرأ بالنون أراد الاخبار من الله عن نفسه. وقوله (لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة) إخبار من الله تعالى انه رضي عن الذين بايعوا تحت الشجرة النبي صلى الله عليه وآله وكانوا مؤمنين في الوقت الذي بايعوه (فعلم ما في قلوبهم) من إيمان ونفاق فرضي عن المؤمنين وسخط على المنافقين. وقيل معناه فعلم ما في قلوبهم من صدق النية في القتال وكراهتهم له، لأنه بايعهم على القتال - ذكره مقاتل - (فأنزل السكينة عليهم) يعني على المؤمنين، والسكينة الصبر لقوة البصيرة (وأثابهم فتحا قريبا) قال قتادة وابن أبي ليلى: يعني فتح خيبر وقال قوم: فتح مكة (ومغانم كثيرة يأخذونها) فالغيمة ملك أموال أهل الحرب من المشركين بالقهر والغلبة في حكمه تعالى، وكان القتال من أجلها. و (المغانم) ههنا يراد به غنائم خيبر. وقوله (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها) يعني سائر الغنائم وقال قوم: أراد بها أيضا غنائم خيبر. وقوله (فعجل لكم هذه) يعني الصلح وسميت بيعة الرضوان لقول الله تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين) وقال ابن عباس كان سبب بيعة الرضوان بالحديبية تأخر عثمان حين بعثه النبي صلى الله عليه وآله إلى قريش أنهم قتلوه، فبايعهم على قتال قريش، وقال ابن عباس: كانوا ألفا وخمسمائة نفس. وقال جابر: كانوا ألفا وأربعمائة نفس، وقال ابن أوفى ألفا وثلاثمائة. والشجرة التي بايعوا تحتها هي السمرة. واستدل بهذه الآية جماعة على فضل أبي بكر، فإنه لا خلاف أنه كان من المبايعين تحت الشجرة. وقد ذكر الله أنه رضي عنهم، وانه أنزل السكينة عليهم وانه علم ما في قلوبهم من الايمان، وأثابهم فتحا قريبا. والكلام على ذلك مبنى على القول بالعموم، وفي أصحابنا من قال لا صيغة للعموم ينفرد بها. وبه قال كثير من المخالفين، فمن قال بذلك كانت الآية عنده مجملة لا يعلم المعنى بها، وقد بايع صلى الله عليه وآله جماعة من المنافقين بلا خلاف، فلابد من تخصيص الآية على كل حال. على أنه تعالى وصف من بايع تحت الشجرة بأوصاف قد علمنا أنها لم تحصل في جميع المبايعين، فوجب أن يختص الرضا بمن جمع الصفات لأنه قال (فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا) ولا خلاف بين أهل النقل ان الفتح الذي كان بعد بيعة الرضوان بلا فصل هو فتح خيبر. وإن رسول الله صلى الله عليه وآله عند ذلك قال: (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يده) فدعا عليا فأعطاه الراية، وكان الفتح على يده، فوجب أن يكون هو المخصوص بحكم الآية، ومن كان معه في ذلك الفتح لتكامل الصفات فيهم. على أن ممن بايع بيعة الرضوان طلحة والزبير، وقد وقع منهما من قتال علي عليه السلام ما خرجا به عن الايمان وفسقا عند جميع المعتزلة ومن جرى مجراهم، ولم يمنع وقوع الرضاء في تلك الحال من مواقعة المعصية في ما بعد، فما الذي يمنع من مثل ذلك في غيره. وليس إذا قلنا: أن الآية لا تختص بالرجلين، كان طعنا عليهما بل إذا حملناها على العموم دخلا، وكل متابع مؤمن معهما، فكان ذلك أولى. وقوله (ومغانم كثيرة تأخذونها) يعني ما غنمتوه من خيبر من أنواع الغنائم (وكان الله عليما) بمصالح عباده (حكيما) في جميع أفعاله. ثم قال (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذ - ه) يعني غنائم خيبر. والباقي كل ما يغنمه المسلمون من دار الحرب (وكف أيدي الناس عنكم) يعني أسدا وغطفان، فإنهم كانوا مع خيبر فصالحهم النبي صلى الله عليه وآله فكفوا عنه. وقيل: يعني اليهود كف أيديهم عنكم بالمدينة من قبل الحديبية ومجئ قريش، فلم يغلبوكم (ولتكون آية للمؤمنين) يستدلون بها على صحة قولكم (ويهديكم) أي ويرشدكم (صراطا مستقيما) يفضي بكم إلى الحق وما يؤدي إلى الثواب. والواو في قوله (ولتكون) معناه إنا وعدناكم الغنائم لكف أيدي الناس عنكم وليكون ذلك آية للمؤمنين إذ وقع الخبر على ما أخبر به، لأنه علم غيب لا يعلمه إلا الله.
1- سورة 9 التوبة آية 84 - 86.