الآيات 11-15
قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا، وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا، سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلًا﴾
القراءة:
قرأ أهل الكوفة إلا عاصما " كلم الله " على الجمع. الباقون " كلام الله " على التوحيد، لأنه يدل على الكثير من حيث هو اسم جنس، قال أبو علي " كلام الله " يقع على ما يفيد، والكلم يقع أيضا على الكلام، وعلى ما لا يفيد والكلم جمع كلمة. وقرأ حمزة والكسائي " ضرا " بالفتح. الباقون بالضم. فمن قرأ - بالفتح - أراد المصدر. ومن قرأ بالضم أراد الاسم. وقيل بالفتح ضد النفع وبالضم سوء الحال، كقوله " مسني الضر " (1) ويقال: ضرني الشئ وأضرني، ولا يقال: أضربي، وضره يضره وضاره يضيره بمعنى واحد. هذا اخبار عن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله انه " سيقول لك " يا محمد " المخلفون من الاعراب " قال ابن إسحاق ومجاهد: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله الخروج إلى مكة عام الحديبية أحرم بعمرة ودعا الاعراب الذين حول المدينة إلى الخروج، فتثاقلوا: أسلم وغفار وجهينة ومزينة، فأخبر الله تعالى بذلك. والمخلف هو المتروك في المكان خلف الخارجين عن البلد، وهو مشتق من المتخلف وضده المتقدم. تقول خلفته كما تقول قدمته تقديما، وإنما تخلفوا لتثاقلهم عن الجهاد وإن اعتذروا بشغل الأموال والأولاد. والاعراب الجماعة من عرب البادية، وعرب الحاضرة ليسوا بأعراب، ففرقوا بينهما، وإن كان اللسان واحد. وقوله " شغلتنا أموالنا وأهلونا " أخبار بما اعتلوا به، فالشغل قطع العمل عن عمل، لا يمكن الجمع بينهما لتنافي أسبابهما كالكتابة والرمي عن القوس والله لا يشغله شأن عن شأن لأنه لا يعمل بآلة. وقوله " فاستغفر لنا " حكاية ما قالوه للنبي وسألوه أن يستغفر لهم والاستغفار طلب المغفرة بالدعاء مع التوبة عن المعاصي فهؤلاء سألوا الدعاء بالمغفرة، وفي قلوبهم خلاف ما أظهروه بأفواههم ففضحهم الله وهتك أستارهم، وأبدى ما نافقوا به في جهادهم، فقال " يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ". ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله " قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا " لا يقدر أحد على دفعه " أو أراد بكم نفعا " لا يقدر أحد على إزالته " بل كان الله بما تعملون خبيرا " أي عالما نافعا لكم لا يخفى عليه شئ منها، ثم قال له قل لهم " بل ظننتم ان لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم ابدا " أي ظننتم انهم لا يرجعون ويقتلون ويصطلمون. وهو قول قتادة " وزين ذلك في قلوبكم " زينه الشيطان ذلك وسوله لكم " وظننتم ظن السوء " في هلاك النبي والمؤمنين، وإن الله ينصر عليهم المشركين " وكنتم قوما بورا " والبور الفاسد وهو معنى الجمع وترك جمعه في اللفظ لأنه مصدر وصف به قال حسان:
لا ينفع الطول من نوك القلوب * وقد يهدي الا له سبيل المعشر (2)
البور والبوار الهلاك وبارت السلعة إذا كسدت والبائر من الفاكهة مثل الفاسدة. وقال قتادة " بورا " أي فاسدين. وقال مجاهد: هالكين. ثم قال تعالى مهددا لهم " ومن لم يؤمن بالله ورسوله " أي لم يصدق بهما " فانا اعتدنا للكافرين سعيرا " أي نارا تسعرهم وتحرقهم. ثم قال " ولله ملك السماوات والأرض " بأن يتصرف فيهما كما يشاء لا يعترض أحد عليه فيها " يغفر لمن يشاء " معاصيه (ويعذب من يشاء) إذا استحق العقاب بارتكاب القبائح (وكان الله غفورا رحيما) أي ساترا على عباده معاصيهم إذا تابوا لا يفصحهم بها رحيما باسقاط عقابهم الذي استحقوها بالتوبة على وجه الابتداء. ثم قال تعالى (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها) يعني غنائم خيبر (ذرونا نتبعكم) أي اتركونا نجئ معكم، فقال الله تعالى (يريدون أن يبدلوا كلام الله قل) لهم يا محمد (لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) قال مجاهد وقتادة: يعني ما وعد به أهل الحديبية أن غنيمة خيبر لهم خاصة، فأرادوا تغيير ذلك بأن يشاركوهم فيها فمنعهم الله من ذلك. وقال ابن زيد: أراد بقوله (لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) وهذا غلط لأن هذه الآية نزلت في الذين تأخروا عن تبوك بعد خيبر وبعد فتح مكة، فقال الله تعالى لهم (لن تخرجوا معي ابدا) لان النبي صلى الله عليه وآله لم يخرج بعد ذلك في قتال ولا غزو إلى أن قبضه الله تعالى. ثم قال (كذلك قال الله من قبل) أي مثل ذلك حكم الله وقال ابن زيد: غنيمة خيبر لأهل الحديبية خاصة لا يشركهم فيها أحد. ثم حكى ما قالوه بأنهم (فسيقولون) عند ذلك ليس الامر كذلك (بل تحسدوننا) فقال ليس الامر على ما قالوه (بل كانوا لا يفقهون) الحق وما يدعون إليه (إلا قليلا) وقيل معناه لا يفقهون الحق إلا القليل منهم، وهم المعاندون. وقال بعضهم لا يفقهون إلا فقها قليلا أو الأشياء قليلا. وإنما قالوا: تحسدوننا، لان المسلمين لما توجهوا إلى خيبر وأخذوا غنائمها، قال المخلفون (ذرونا نتبعكم) قالوا نعم على أن لا شئ لكم من الغنيمة، فقالوا عند ذلك تحسدوننا، فقال تعالى (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا).
1- سورة 21 الأنبياء آية 83.
2- تفسير الطبري 26 / 45.