الآيات 16-20

قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ، فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير في احدى الروايتين (انفا) على وزن (فعل) الباقون (آنفا) بالمد على وزن (فاعل) قال أبو علي الفارسي: جعل ابن كثير ذلك مثل (حاذر، وحذر. وفاكه، وفكه) والوجه الرواية الأخرى. حكى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله أن من الكفار من إذا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله واستمع لقراءة القرآن منه وسمع ما يؤديه إلى الحق من الوحي وما يدعوه إليه، فلا يصغي إليه ولا ينتفع به حتى إذا خرج من عنده لم يدر ما سمعه ولا فهمه، ويسألون أهل العلم الذين آتاهم الله العلم والفهم من المؤمنين (ماذا قال آنفا) اي أي شئ قال الساعة؟وقيل: معناه قرينا مبتديا. وقيل: إنهم كانوا يتسمعون للخطبة يوم الجمعة وهم المنافقون، والآنف الجائي بأول المعنى ومنه الاستئناف، وهو استقبال الامر بأول المعنى، ومنه الانف لأنه أول ما يبدو من صاحبه، ومنه الانفة رفع النفس عن أول الدخول في الرتبة. وإنما قال (ومنهم من يستمع إليك) فرده إلى لفظة (من) وهي موحدة. ثم قال (حتى إذا خرجوا) بلفظ الجمع برده إلى المعنى، لان (من) يقع على الواحد والجماعة. ثم قال تعالى (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) أي وسم قلوبهم وجعل عليها علامة تدل على أنهم كفار لا يؤمنون، وهو كالختم وإن صاحبه لا يؤمن فطبع الله على قلوب هؤلاء الكفار ذما لهم على كفرهم أي لكونهم عادلين عن الحق واخبر أنهم (اتبعوا) في ذلك (أهواءهم) وهو شهوة نفوسهم وما مال إليه طبعهم دون ما قامت عليه الحجة يقال: هوى يهوي هوى فهو هاو، واستهواه هذا الامر أي دعاه إلى الهوى. ثم وصف تعالى المؤمنين فقال (والذين اهتدوا) إل الحق، ووصلوا إلى الهدى والايمان (زادهم هدى) فالضمير في زادهم يحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها: زادهم الله هدى بما ينزل عليهم من الآيات والاحكام، فإذا أقروا بها وعرفوها زادت معارفهم:

الثاني: زادهم ما قال النبي صلى الله عليه وآله هدى.

الثالث: زادهم استهزاء المنافقين إيمانا. والوجه في إضافة الزيادة في الهدى إلى الله هو ما يفعله تعالى بهم من الألطاف التي تقوي دواعيهم إلى التمسك بما عرفوه من الحق وتصرفهم عن العدول إلى خلافه. ويكون ذلك تأكيدا لما عملوه من الحق وصارفا لهم عن تقليد الرؤساء من غير حجة ولا دلالة. ثم قال (وآتاهم) على زيادة الهدى (تقواهم) أي خوفا من الله من معاصيه ومن ترك مفترضاته بما فعل بهم من الألطاف في ذلك. وقيل معناه (آتاهم) ثواب (تقواهم) ولا يجوز أن يكون المراد خلق لهم تقواهم لأنه يبطل أن يكون فعلهم. ثم قال (فهل ينظرون إلا الساعة) أي ليس ينتظرون إلا القيامة (أن تأتيهم بغتة) أي فجأة، فقوله (أن تأتيهم) بدل من الساعة، وتقديره إلا الساعة إتيانها بغتة، فان حذف الساعة كان التقدير هل ينظرون إلا إتيانهم الساعة بغتة. ثم قال تعالى (فقد جاء أشراطها) أي علاماتها. وقيل: منها انشقاق القمر في وقت النبي صلى الله عليه وآله ومنها مجئ محمد صلى الله عليه وآله بالآيات لأنه آخر الأنبياء، فالاشراط العلامات واحدها شرط قال جرير:

ترى شرط المعزى مهور نسائهم * وفي شرط المعزى لهن مهور (1)

وأشرط فلان لنفسه إذا علمها بعلامة، وقال أوس بن حجر:

فاشرط فيها نفسه وهو مقصم * والقى بأسباب له وتوكلا (2)

والفاء في قوله (فقد جاء أشراطها) عطف جملة على جملة فيها معنى الجزاء، والتقدير إن تأتهم بغتة، فقد جاء أشراطها. وقد قرئ شاذا عن أبي عمرو (الا إن) والقراءة بفتح (أن) وقال المبرد: هذا لا يجوز لأنه تعالى أخبر انه لا تأتي الساعة إلا بغتة، فكيف تعلق بشرط. وقال تعالى (فأنى لهم) أي من أين لهم (إذا جاءتهم) يعني الساعة (ذكراهم) أي ما يذكرهم أعمالهم من خير أو شر، فإنه لا ينفعهم في ذلك الوقت الايمان والطاعات لزوال التكليف عنهم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله والمراد به جميع المكلفين (فاعلم) يا محمد (أنه لا إله إلا الله) أي لا معبود يحق له العبادة إلا الله. وفي ذلك دلالة على أن المعرفة بالله اكتساب، لأنها لو كانت ضرورية، لما أمر بها (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) فالخطاب له والمراد به الأمة لأنه صلى الله عليه وآله لا ذنب له يستغفر منه، ويجوز أن يكون ذلك على وجه الانقطاع إليه تعالى. ثم قال (والله يعلم متقلبكم ومثواكم) أي الموضع الذي تتقلبون فيه وكيف تتقلبون وموضع استقراركم، لا يخفى عليه شئ من أعمالكم طاعة كانت أو معصية. وقيل: يعلم متقلبكم في أسفاركم ومثواكم في أوطانكم، وقيل: متقلبكم في أعمالكم ومثواكم في نومكم. ثم قال تعالى حكاية عن المؤمنين أنهم كانوا يقولون (لولا نزلت سورة) أي هلا نزلت سورة لأنهم كانوا يأنسون بنزول الوحي ويستوحشون من ابطائه فقال الله تعالى حاكيا عن حالهم عند نزول السورة فقال (وإذا أنزلت سورة محكمة) أي ليس فيها متشابه ولا تأويل (وذكر فيها القتال) أي أوجب عليهم القتال (رأيت الذين في قلوبهم مرض) أي نفاق وشك (ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) لثقل ذلك عليهم وعظمه في نفوسهم (فأولى لهم) قال قتادة: هو وعيد، وكأنه قال العقاب أولى بهم، وهو ما يقتضيه قبح أحوالهم. وروي عن ابن عباس، أنه قال: قال الله تعالى (فأولى) ثم استأنف فقال (لهم طاعة وقول معروف) يعني للمؤمنين فصارت أولى للذين في قلوبهم مرض. وقيل: المعنى (أولى لهم طاعة وقول معروف) من أن يجزعوا عن فرض الجهاد عليهم. وقال الجبائي: معنى الكلام ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت فأولى لهم أن يعاقبوا (فلو صدقوا الله) في ما أمرهم به (لكان خيرا لهم) ودخل بين الكلامين (طاعة وقول معروف) وليس من قصته وإنما هي من صفة المؤمن يأمره الله أن يطيعه، ويقول له قولا معروفا. وقرأ ابن مسعود " سورة محدثة " وهو شاذ.


1- الطبري 26 / 30.

2- الطبري 26 / 31.