الآيات 1-5
هي مدينة كلها إلا آية واحدة قال ابن عباس وقتادة: فالآية الواحدة نزلت حين خرج النبي صلى الله عليه وآله من مكة وجعل ينظر إلى البيت، وهو يبكي حزنا عليه فنزل قوله " فكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك.. " الآية وهي ثمان وثلاثون آية في الكوفي وتسع وثلاثون في المدنيين وأربعون في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ، فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾
القراءة:
خمس آيات كوفي وست في ما عداه. قرأ أهل البصرة وحفص عن عاصم " والذين قتلوا " على ما لم يسم فاعله بضم القاف وكسر التاء. الباقون " قاتلوا " بألف من المفاعلة. وقرئ شاذا " قتلوا " بفتح القاف وتشديد التاء. من قرأ بألف كان أعم فائدة، لأنه يدخل فيه من قتل. ومن قرأ بغير الف لم يدخل في قراءته القاتل الذي لم يقتل وكلاهما لم يضل الله أعمالهم، فهو أكثر فائدة. ومن قرأ بغير الف خص هذه الآية بمن قتل. وقال: علم أن الله لم يضل اعمال من قاتل بدليل آخر ولان من قاتل لم يضل عمله بشرط ألا يحبط عند من قال بالاحباط، وليس من قتل كذلك، لأنه لا يضل الله أعمالهم على وجه بلا شرط، ولأنه لا يقتل إلا وقد قاتل فصار معناهما واحد. قال مجاهد عن ابن عباس إن قوله " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " نزلت في أهله مكة. وقوله " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " في الأنصار. يقول الله تعالى مخبرا بأن الذين جحدوا توحيد الله وعبد وا معه غيره وكذبوا محمدا نبيه صلى الله عليه وآله في الذي جاء به وصدوا من أراد عبادة الله والاقرار بتوحيده وتصديق نبيه عن الدين، ومنعوه من الاسلام " أظل اعمالهم " ومعناه حكم الله على أعمالهم بالضلال عن الحق والعدول من الاستقامة وسماها بذلك لأنها عملت على غير هدى وغير رشاد. والصد عن سبيل الله هو الصرف عن سبيل الله بالنهي عنه والمنع منه. والترغيب في خلافه، وكل ذلك صد، فهؤلاء كفروا في أنفسهم ودعوا غيرهم إلى مثل كفرهم، والضلال الاهلاك حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل، وليس في الآية ما يدل على القول بصحة الاحباط إذا حملناها على ما قلناه. ومن قال بالتحابط بين المستحقين لابد ان يترك ظاهر الآية. ثم قال " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني صدقوا بتوحيد الله والاقرار بنبوة نبيه وأضافوا إلى ذلك الاعمال الصالحات " وآمنوا بما انزل على محمد " من القرآن والعبادات وغيرها " وهو الحق من ربهم " الذي لا مرية فيه " كفر الله عنهم سيئاتهم " وقوله " وهو الحق " يعني القرآن - على ما قاله قوم - وقال آخرون إيمانهم بالله وبالنبي صلى الله عليه وآله " هو الحق من ربهم " أي بلطفه لهم فيه وجثه عليه وأمره به. ومعنى تكفير السيئات هو الحكم باسقاط المستحق عليها من العقاب، فأخبر تعالى انه متى فعل المكلف الايمان بالله والتصديق لنبيه أسقط عقاب معاصيه حتى يصير بمنزلة ما لم يفعل. وقوله " وأصلح بالهم " قال قتادة: معناه وأصلح حالهم في معائشهم وأمر دنياهم. وقال مجاهد: وأصلح شأنهم، والبال لا يجمع، لأنه ابهم أخواته من الحال والشأن. ثم بين تعالى لم فعل ذلك ولم قسمهم هذين القسمين فقال " ذلك بأن الذين كفروا " فعلنا ذلك بهم وحكمنا بابطال أعمالهم جزاء على أنهم " اتبعوا الباطل " والمعاصي، وفعلنا بالمؤمنين من تكفير سيئاتهم لأنهم " اتبعوا الحق " الذي أمر الله باتباعه. وقيل الباطل هو الشيطان - ههنا - والحق هو القرآن، ويجوز أن يكون التقدير الامر ذلك، وحذف الابتداء. ثم قال تعالى (كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) أي هؤلاء الذين حكمنا بهلاكهم وضلالهم بمنزلة من دعاه الباطل فاتبعه، والمؤمن بمنزلة من دعاه الحق من الله فاتبعه ويكون التقدير يضرب الله للناس صفات أعمالهم بأن بينها وبين ما يستحق عليها من ثواب وعقاب. ثم خاطب تعالى المؤمنين فقال (فإذا لقيتم) معاشر المؤمنين " الذين كفروا " بالله وجحدوا ربوبيته من أهل دار الحرب (فضرب الرقاب) ومعناه اضربوهم على الرقاب، وهي الأعناق (حتى إذا أثخنتموهم) أي أثقلتموهم بالجراح وظفرتم بهم (فشدوا الوثاق) ومعناه احكموا وثاقهم في الامر. ثم قال (فاما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) ومعناه اثقالها. وقوله (فاما منا بعد) نصب على المصدر والتقدير إما أن تمنوا منا وإما أن تفدوا فداء، وقال قتادة وابن جريج: الآية منسوخة بقوله (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (1) وقوله (فاما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) (2) وقال ابن عباس والضحاك: الفداء منسوخ. وقال ابن عمر والحسن وعطا وعمر ابن عبد العزيز: ليست منسوخة. وقال الحسن يكره أن يفادى بالمال، ويقال يفادي الرجل بالرجل، وقال قوم: ليست منسوخة، والامام مخير بين الفداء والمن والقتل بدلالة الآيات الأخر (حتى تضع الحرب أوزارها) أي أثقالها، وقال قتادة: حتى لا يكون مشرك. وقال الحسن: إن شاء الامام أن يستفد الأسير من المشركين، فله ذلك بالسنة، والذي رواه أصحابنا ان الأسير إن اخذ قبل انقضاء الحرب والقتال بأن تكون الحرب قائمة والقتال باق، فالامام مخير بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا، وليس له المن ولا الفداء. وإن كان أخذ بعد وضع الحرب أوزارها وانقضاء الحرب والقتال كان مخيرا بين المن والمفادات. إما بالمال أو النفس، وبين الاسترقاق، وضرب الرقاب، فان أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك وصار حكمه حكم المسلم. وقوله (ذلك) أي الذي حكمنا به هو الحق الذي يجب عليكم اتباعه (ولو يشاء الله لانتصر منهم) وأهلكهم بانزال العذاب عليهم (ولكن ليبلو بعضكم ببعض) ويختبرهم ويتعبدهم بقتالهم إن لم يؤمنوا. ثم اخبر تعالى أن (الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) قال قتادة هم الذين قتلوا يوم أحد. ومن قرأ (قاتلوا) أراد قاتلوا سواء قتلوا أو لم يقتلوا لن يهلك الله أعمالهم ولا يحكم بضلالهم وعدولهم عن الحق. ثم قال (سيهديهم) يعني إلى طريق الجنة (ويصلح بالهم) أي شأنهم أو حالهم، وليس في ذلك تكرار البال، لان المعنى يختلف، لان المراد بالأول انه يصلح حالهم في الدين والدنيا وبالثاني يصلح حالهم في النعيم، فالأول سبب النعيم، والثاني نفس النعيم.
1- سورة 9 التوبة آية 6.
2- سورة 8 الأنفال آية 58.