الآيات 21-25
قوله تعالى: ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ، وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾
القراءة:
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر (سواء) نصبا. الباقون بالرفع. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما (غشوة) على التوحيد الباقون (غشاوة) على الجمع. من رفع (سواء) جعله مبتدأ وما بعده خبرا عنه، ويكون الوقف على قوله (وعملوا الصالحات) تاما. ويجعل الجملة في موضع النصب، لأنها خبر ل? (جعل) ورفع (سواء) لأنه اسم جنس لا يجري على ما قبله كما لا تجري الصفة المشبهة بالمشبهة إذا كانت لسبب الأول كذلك نحو قولك: مررت بزيد خير مه أبوه. فمثل هذا في الحال والخبر والصفة سبيلة واحد إذا كانت لسبب الأول. ومن نصب (محياهم ومماتهم) جعل (سواء) في موضع (مستو) وعامله تلك المعاملة، فجعل في موضع المفعول الثاني (أن نجعلهم) والهاء والميم المفعول الأول، وإن جعلت (كالذين آمنوا) المفعول الثاني نصب (سواء) على الحال وهو وقف حسن. ويرفع (محياهم) بمعنى استوى محياهم ومماتهم. ومن قرأ (غشوة) جعله كالرجفة والخطفة. ومن قرأ (غشاوة) جعله مصدرا مجهولا، والفعلة المرة الواحدة، وقال قوم هما لغتان بمعنى واحد. وحكي الضم أيضا. وقيل: في الضمير في قوله (سواء محياهم ومماتهم) قولان:
أحدهما: إنه ضمير للكفار دون الذين آمنوا
الثاني: انه ضمير للقبيلين. فمن جعل الضمير للكفار قال (سواء) على هذا القول مرتفع بأنه خبر ابتداء متقدم وتقديره محياهم ومماتهم سواء أي محياهم محيا سواء ومماتهم كذلك، فعلى هذا لا يجوز النصب في (سواء) لأنه إثبات الخبر بأن محياهم ومماتهم يستويان في الذم والبعد من رحمة الله. ومن قال الضمير يرجع إلى القبيلين قال يجوز ان ينتصب (سواء) على أنه مفعول ثان لأنه ملتبس بالقبيلين جميعا، وليس كذلك الوجه الأول، لأنه للكفار دون المؤمنين، فلا يلتبس بالمؤمن حيث كان للكفار دونهم يقول الله تعالى على وجه التوبيخ للكفار على معاصيهم بكفرهم بلفظ الاستفهام (أم حسب) ومعنى (أم) يحتمل أن تكون الهمزة وتقديره أحسب الذين اجترحوا السيئات، والحسبان هو الظن. وقد بيناه في ما مضى. والاجتراح الاكتساب اجترح السيئة اجتراحا أي اكتسبها من الجراح، لان له تأثيرا كتأثير الجراح. ومثله الاقتراف، وهو مشتق من قرف القرحة. والسيئة التي يسواء صاحبها، وهي الفعلة القبيحة التي يستحق بها الذم، والحسنة هي التي يسر صاحبها باستحقاق المدح بها عليها، ووصفها بهذا يفيد هذا المعنى. وقال الرماني: القبيح ما ليس للقادر عليه ان يفعله. والحسن هو ما للقادر عليه أن يفعله قال: وكل فعل وقع لا لامر من الأمور، فهو لغو لا ينسب إلى الحكمة ولا السفه. والجعل تصيير الشئ على صفة لم يكن عليها، وهو انقلاب الشئ عما كان قادرا عليه. والمعنى أيظن هؤلاء الكفار المرتكبون للمعاصي الذين اكتسبوا القبائح أن يحكم لهم بحكم المؤمنين المعترفين بتوحيد الله المصدقين لرسله العاملين بطاعته ؟!. ثم اخبر عن الكفار فقال (سواء محياهم ومماتهم) أي هم متساون حال كونهم أحياء وحال كونهم أمواتا، لان الحي متى لم يفعل الطاعات فهو بمنزلة الميت وقال مجاهد: المؤمن يموت على ايمانه ويبعث عليه. والكافر يموت على كفره ويبعث عليه. ثم قال (ساء ما يحكمون) أي بئس الشئ الذي يحكمون به في هذه القصة. وإنما قال (يحكمون) مع أن الحكم مأخوذ من الحكمة، وهي حسنة لان المراد على ما يدعون من الحكمة، كما قال (حجتهم داحضة عند ربهم) (1) وقوله (وما كان حجتهم الا أن قالوا ائتوا بآبائنا ان كنتم صادقين). ثم قال تعالى (وخلق الله السماوات والأرض بالحق) أي للحق لم يخلقهما عبثا، وإنما خلقهما لمنافع خلقه بأن يكلفهم فيها ويعرضهم للثواب الجزيل (ولتجزى كل نفس بما كسبت) من ثواب طاعة أو عقاب على معصية (وهم لا يظلمون) أي لا يبخسون حقوقهم. ثم قال (أفرأيت من اتخذ) يا محمد (الهه هواه) وإنما سمي الهوى إلها من حيث أن العاصي يتبع هواه ويرتكب ما يدعوه إليه ولم يريد انه يعبد هواه أو يعتقد أنه يحق له العبادة، لان ذلك لا يعتقده أحد. قال الحسن: معناه اتخذ إلهه بهواه، لان الله يحب أن يعرف بحجة العقل لا بالهوى. وقال سعيد بن جبير كانوا يعبدون العزى وهو حجر أبيض حبنا من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأول وعبد وا الآخر. وقال ابن عباس: معناه أفرأيت من اتخذ دينه ما يهواه لأنه يتخذه بغير هدى من الله ولا برهان. وقوله (وأضله الله على علم) معناه حكم الله بضلاله عالما بعدوله عن الحق. ويحتمل أن يكون المعنى يعدل الله به عن طريق الجنة إلى طريق النار جزاء على فعله، عالما بأنه يستحق ذلك (وختم على سمعه وقلبه) وقد فسرناه في ما مضى. ومعناه أنه يجعل عليهما علامة تدل على كفره وضلاله واستحقاقه للعقاب، لا أنه يفعل فيهما ما يمنع من فعل الايمان والطاعات (وجعل على بصره غشاوة) شبهه بمن كان على عينه غشاوة تمنعه من الابصار، لان الكافر إذا كان لا ينتفع بما يراه ولا يعتبر به، فكأنه لم يره، ثم قال (فمن يهديه) إلى طريق الجنة أو من يحكم بهدايته (من بعد الله) إن حكم الله بخلافه (أفلا تذكروه) أي أفلا تتفكرون فتعلمون ان الامر على ما قلناه. ثم حكى تعالى عن الكفار أنهم (قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) أي ليس الحياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها في دار الدنيا (نموت ونحيا) وقيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: انه على التقديم والتأخير وتقديره ونحيا ونموت من غير رجوع ولا بعث على ما تدعون:
الثاني: أن يكون المراد نموت ويحيا أولادنا كما يقال ما مات من خلف ابنا مثل فلان
والثالث: أن يكون المعنى يموت بعضنا ويحيا بعضنا، كما قال تعالى (فاقتلوا أنفسكم) (2) أي ليقتل بعضكم بعضا. ثم حكى انهم يقولون (وما يهلكنا إلا الدهر) يعنون مرور الليل والنهار والشهور والأعوام ثم اخبر تعالى فقال (وما لهم بذلك من علم) أي ليس لهم بما يقولونه علم (إن هو إلا يظنون) أي وليس هم في ما يذكرونه إلا ظانين وإنما الامر فيه بخلافه. ثم قال تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) أي إذا قرئت عليهم حججنا الظاهرة (ما كان حجتهم إلا أن قالوا) يعني لم يكن لهم في مقابلتها حجة إلا قولهم (ائتوا بآبائنا) الذين ماتوا وبادوا (إن كنتم صادقين) في أن الله يعيد الأموات ويبعثهم يوم القيامة. وإنما لم يجبهم الله إلى ذلك، لأنهم قالوا ذلك متعنتين مقترحين لا طالبين الحجة.1- سورة 42 الشورى آية 16.
2- سورة 2 البقرة آية 54.