الآيات 30-40
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ، وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ، إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ، إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ، فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾
سبع آيات كوفي وست في ما عداه، عد الكوفيون " ليقولون " ولم يعده الباقون. اقسم الله تعالى أنه نجى أي خلص بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى من العذاب المهين الذي كان يفعله بهم فرعون وقومه لأنهم كانوا استعبدوهم، وكانوا يكلفونهم المشاق ويحملوهم القذارات ويكلفونهم كنسها وتنظيفها وغير ذلك، فخلصهم الله تعالى حين أهلك فرعون وقومه ووفقهم للايمان بموسى. ثم اخبر تعالى ان فرعون كان عاليا من المسرفين أي متجبرا متكبرا من المسرفين في الأرض الذين يتجاوزون حد ما يجوز فعله إلى مالا يجوز فعله استكبارا وعلوا وعتوا، يقال: أسرف يسرف إسرافا فهو مسرف، ومثله الافراط، وضده الاقتار، وإنما وصف المسرف بأنه عال، وإن كان وصف عال قد يكون صفة مدح، لأنه قيده بأنه عال في الاسراف، لان العالي في الاحسان ممدوح والعالي في الاسراف مذموم، واطلاق صفة عال تعظيم، وإذا أطلق فالمدح به أولى. ثم اخبر تعالى مقسما بأنه اختارهم يعني موسى وقومه على علم على العالمين، فالاختيار هو اختيار الشئ على غيره بالإرادة له لتفضيله عليه. ومثله الايثار، وليس في مجرد الإرادة تفضيل شئ على غيره، لأنه قد يمكن أن يريد شيئا من غير أن يخطر بباله ما هو فيه أولى منه في العقل، فلا يكون اختياره تفضيلا. وإما ان يريد الأولى ولا يدري انه أولى، فيختاره عليه لجهله بأنه أولى أو يختاره وهو يعلم أنه غير أولى، ويختاره لحاجته إليه من جهة تعجل النفع به، ومن اختار الأدون في الصلاح على الأصلح كان منقوصا مذموما، لأنه بمنزلة من اختار القبيح على الحسن. وقيل: المعنى اخترناهم على عالمي زمانهم بدلالة قوله لامة نبينا " كنتم خير أمة أخرجت للناس " (1) وذلك يوجب انه ما اختارهم على من هو خير منهم، وإنما اختارهم على من هو في وقتهم من العالمين. وقال قتادة، ومجاهد: على عالمي زمانهم. وإنما قال " اخترناهم على علم على العالمين " بما جعل فيهم من الأنبياء الكثيرين، فهذه خاصة لهم ليست لغيرهم، لما في العلوم من مصالح المكلفين بأنبيائهم. ثم بين ما بن اختارهم بأن قال " وآتيناهم " يعني أعطيناهم " من الآيات " يعني الدلالات والمعجزات " ما فيه بلاء مبين " قال الحسن: يعني ما فيه النعمة الظاهرة. قال الفراء: البلاء قد يكون بالعذاب، وقد يكون بالنعمة، وهو ما فعل الله بهم من إهلاك فرعون وقومه، وتخليصهم منه وإظهار نعمه عليهم شيئا بعد شئ. ثم اخبر تعالى عن كفار قوم نبينا صلى الله عليه وآله فقال " ان هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى " أي ليس هذا الا الموتة الأولى " وما نحن " أي لسنا بعدها بمبعوثين ولا معاد بن " بمنشرين " ويقولون " فأتوا بآبائنا " الذين ماتوا قبلنا وأعيدوهم " ان كنتم صادقين " في أن الله تعالى يقدر على إعادة الأموات واحيائهم لان من قدر على النشأة الثانية قدر على إعادة الآباء، وهذا باطل لان النشأة الثانية إنما وجبت للجزاء لا للتكليف، فلا تلزم إعادة الآباء ولا تجب.
قوله تعالى: ﴿ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾
ان قيل: لم لم يجابوا عن شبهتهم في الآية، ولم يبين لهم أن ذلك لا يلزم، وما الوجه في جوابهم؟" أهم خير أم قوم تبع " قلنا: من تجاهل في الحجاج الذي يجري مجرى الشغب الذي لا يعتقد بمثله مذهب لنفي الشبهة فيه، فإنه ينبغي أن يعدل عن مقابلته إلى الوعظ له بما هو أعود عليه، فلذلك عدل تعالى معهم إلى هذا الوعيد الشديد، وقال " أهم " هؤلاء الكفار " خير أم قوم تبع والذين من قبلهم " فانا " أهلكناهم " لما جحدوا الآيات وكفروا بنعم الله وارتكبوا معاصيه فما الذي يؤمن هؤلاء من مثل ذلك. وقيل: تبع الحميري كان رجل من حمير سار بالجيوش إلى الحيرة حتى حيرها، ثم أتى سمرقند فهدمها، وكان يكتب باسم الذي ملك بحرا وبرا وضحا وريحا، ذكره قتادة. وقال سعيد بن جبير وكعب الاخبار ذم الله قومه، ولم يذمه ونهى أن يسب. وحكى الزجاج: ان تبعا كان مؤمنا، وان قومه كانوا كافرين. وقيل: انه نظر إلى كتاب على قبرين بناحية حمير (هذا قبر رضوي وقبر جي ابني تبع لا يشركان بالله شيئا) وقيل: سمي تبعا، لأنه تبع من كان قبله من ملوك اليمن. والتبايعة اسم ملوك اليمن. ثم قال تعالى " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين " أي لم نخلق ذلك لا لغرض حكمي بل خلقناهم لغرض حكمي، وهو ان ننفع به المكلفين ونعرضهم الثواب وننفع الحيوان بالمنافع لهم فيها واللذات. وفي الآية دلالة على من انكر البعث، لأنه لو كان على ما توهموه انه لا يجر به إلى الجزاء في دار أخرى مع ما فيه من الألم لكان لعبا، لأنه ابتدأ باختيار ألم لا يجر به إلى عوض. ثم قال تعالى " وما خلقناهما " يعني السماوات والأرض " الا بالحق " قال الحسن معناه الا للحق الذي يصل إليه في دار الجزاء. وقيل فيه قولان آخران:
أحدهما: ما خلقناهما الابداعي العلم إلى خلقهما، والعلم لا يدعو الا إلى الصواب
الثاني: وما خلقناهما الا على الحق الذي يستحق به الحمد خلاف الباطل الذي يستحق به الذم. ثم قال " ولكن أكثرهم لا يعلمون " بصحة ما قلناه لعدو لهم عن النظر فيه، والاستدلال على صحته. وفي ذلك دلالة على بطلان قول من قال: المعارف ضرورية، لأنها لو كانت لما نفى تعالى علمهم بذلك. ثم قال تعالى " ان يوم الفصل ميقاتهم أجمعين " يعني اليوم الذي يفصل فيه بين المحق والمبطل بما يضطر كل واحد منهما إلى حاله من حقه أو باطله فيشفي صدور المؤمنين ويقطع قلوب الكافرين بما يرون من ظهور الامر وانكشافه، وهو يوم القيامة، وبين انه ميقات الخلق أجمعين وهو من له ثواب وعوض أو عليه عقاب يوصله إليه.
1- سورة 3 آل عمران آية 110.