الآيات 51-60
قوله تعالى: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ، فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ، فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ، فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ، وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ، إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾
عشر آيات كوفي وشامي. واحدى عشرة في ما عداه، عدوا (مهين) ولم يعده الكوفيون والشاميون. قرأ حفص عن عاصم (أسورة) بغير ألف. الباقون (أسلورة) بألف. وقرأ حمزة والكسائي وخلف " سلفا " بضم السين واللام. الباقون بفتحهما. فمن قرأ بالضم فيهما أراد جمع سليف أي جمع قد مضى من الناس. ومن قرأ " أسورة " أراد جمع سوار، وقال أبو عبيدة: وقد يكون أسوار جمع أسورة. ومن قرأ " سلفا " بضم السين واللام جعله جمع سليف. وقال أبو علي: ويجوز أن يكون جمع (سلف) مثل أسد واسد، ووثن ووثن. ومن فتح فلان (فعلا) جاء في حروف يراد بها الكثرة، فكأنه اسم من أسماء الجمع، كقولهم خادم وخدم. والفتح أكثر. وقد روي - بضم السين - وقرأ الكسائي ونافع وابن عامر " يصدون " بضم الصاد بمعنى يعرضون أي يعدلون. الباقون - بفتح الياء وكسر الصاد - بمعنى يضجون. وقيل: هما لغتان. لما حكى الله تعالى عن قوم فرعون أنه حين كشف العذاب عنهم نكثوا عهدهم وعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، نادى فرعون في قومه الذين اتبعوه على دينه، وقال لهم " يا قوم " على وجه التقرير لهم " أليس لي ملك مصر " أتصرف فيها كما أشاء لا يمنعني أحد منه " وهذه الأنهار " كالنيل وغيرها " تجري من تحتي " أي من تحت أمري. وقيل: إنها كانت تجري تحت قصره، وهو مشرف عليها " أفلا تبصرون " أن ما ادعيه حق وأن ما يقوله موسى باطل. وقيل: قوله " من تحتي " معناه إن النيل كانت تجري منه أنهار تحت قصره. وقيل (من تحتي) من بين يديه لارتفاع سريره. ثم قال لهم فرعون " أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين " وقال قوم: معنى (أم) بل. فكأنه قال: بل أنا خير من موسى، وقال قوم: مخرجها مخرج المنقطعة، وفيها معنى المعادلة لقوله " أفلا تبصرون " أم أنتم بصراء، لأنهم لو قالوا نعم لكان بمنزلة قولهم أنت خير. والأصل في المعادلة على أي الحالين أنتم على حال البصر أم على حال خلافه. ولا يجوز أن يكون المعنى على أي الحالين أنتم على حال البصر أم حال غيرها في أني خير من هذا الذي هو مهين، وإنما المعادلة تفصيل ما أجمله. وقيل له - ههنا - بتقدير أنا خير من هذا الذي هو مهين أم هو إلا أنه ذكر ب? (أم) لاتصال الكلام بما قبله. وحكى الفراء (اما أنا) وهذا شاذ على أنه جيد المعنى. والمهين الضعيف - في قول قتادة والسدي - وقيل: معناه فقير. وقيل يمتهن نفسه في جميع ما يحتاج إليه ليس له من يكفيه، ولا يكاد يبين - وقال الزجاج للثة كانت في لسانه. وقال قتادة: كانت في لسانه آفة - وبه قال السدي. وقيل: إنه كان احترق لسانه بالجمر الذي وضعه في فيه حين أراد أن يعتبر فرعون عقله لما لطم وجهه، وأراد أن يأخذ غير النار فضرب جبرائيل يده إلى النار، فدفع عنه القتل، وقال الحسن: كان في لسانه ثقل، فنسبه إلى ما كان عليه أولا. وقوله " فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب " معناه هلا إن كان صادقا في نبوته طرح عليه أساورة من ذهب. فمن قرأ (أساورة) بألف أراد جمع أسورة وأسورة جمع سوار وهو الذي يلبس في اليد. وأما أسوار، فهو الرامي الحاذق بالرمي، ويقال أسوار - بالضم - ومن جعله جمع أسورة أراد أسلوير، فجعل الهاء عوضا عن الياء. مثل الزنادقة، فلذلك صرفه، لأنه صار له نظير في الآحاد. ومثله في الجمع الزنادقة. والأسورة الرجل الرامي الحاذق بالرمي من رجال العجم. وقوله " أو جاء معه الملائكة مقترنين " قال قتادة ومعناه متتابعين، وقال السدي معناه يقارن بعضهم بعضا. وقيل معناه متعاضدين متناصرين كل واحد مع صاحبه مماليا له على أمره. وقال مجاهد: معناه مقترنين يمشون معه. وقوله " فاستخف قومه " يعني فرعون استخف عقول قومه، فأطاعوه في ما دعاهم إليه، لأنه احتج عليهم بما ليس بدليل، وهو قوله " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي " ولو عقلوا وفكروا لقالوا ليس في ملك الانسان ما يدل على أنه محق لكون ملوك كثيرة يخالفونك مبطلين عندك، وليس يجب ان يأتي مع الرسل ملائكة، لان الذي يدل على صدق الجميع المعجز دون غيره. ثم اخبر الله تعالى عنهم بأنهم كانوا قوما فاسقين خارجين عن طاعة الله إلى معصيته. ثم قال " فلما أسفونا انتقمنا منهم " قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: معنى أسفونا أغضبونا، لان الله تعالى يغضب على العصاة بمعنى يريد عقابهم، ويرضى عن المطيعين بأن يريد ثوابهم بما يستحقونه من طاعاتهم ومعاصيهم كما يستحقون المدح والذم. وقيل الأسف هو الغيظ من المغتم إلا أنه - ههنا - بمعنى الغضب. ثم بين تعالى بماذا انتقم منهم، فقال " فأغرقناهم أجمعين " ثم قال " فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين " فالسلف المتقدم على غيره قبل مجيئ وقته، ومنه السلف في البيع. والسلف نقيض الخلف. ومن قرأ - بضم السين واللام - فهو جمع سليف من الناس، وهو المتقدم أمام القوم. وقيل: معناه " جعلناهم سلفا " متقدمين ليتعظ بهم الآخرون. وقال قتادة: جعلناهم سلفا إلى النار ومثلا أي عظة للآخرين. والمثل بيان عن أن حال الثاني كحال الأول بما قد صار في الشهرة كالعلم، فحال هؤلاء المشركين كحال من تقدم في الاشراك بما يقتضي أن يجروا مجراهم في الاهلاك إن أقاموا على الطغيان. ثم قال الله تعالى " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " قيل: المراد بذلك لما ضرب الله المسيح مثلا بآدم في قوله " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم " (1) اعترض على النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك قوم من كفار قريش، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ووجه الاحتجاج في شبه المسيح بآدم ان الذي قدر أن ينشئ آدم من غير ذكر قادر على إنشاء المسيح من غير ذكر، فلا وجه لاستنكاره من هذا الوجه. وقيل: إنه لما ذكر المسيح بالبراءة من الفاحشة وانه كآدم في الخاصة، قالوا: هذا يقتضي ان نعبده كما عبده النصارى. وقيل: انه لما نزل قوله " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " (2) قالوا قد رضينا أن يكون آلهتنا مع المسيح. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال يوما لعلي عليه السلام (لولا أني أخاف ان يقال فيك ما قالت النصارى في عيسى لقلت فيك قولا لا تمر بملاء إلا اخذوا التراب من تحت قدميك) انكر ذلك جماعة من المنافقين، وقالوا: لم برض ان يضرب له مثلا إلا بالمسيح، فأنزل الله الآية. وقوله " يصدون " بكسر الصاد وضمها لغتان. وقد قرئ بهما مثل يشد ويشد وينم وينم من النميمة. وقيل: معنى يصدون - بكسر الصاد - يضجون أي يضجون سرورا منهم بأنهم عبد وا الأوثان كما عبد النصارى المسيح ومن ضمها أراد يعرضون. ثم حكى عن الكفار انهم قالوا آلهتنا خير أم هو ؟! قال السدي: يعنون أم المسيح. وقال قتادة: يعنون أم محمد صلى الله عليه وآله وقيل: معنى سؤالهم آلهتنا خير أم هو؟انهم ألزموا مالا يلزم على ظن منهم وتوهم، كأنهم قالوا: ومثلنا في ما نعبد مثل المسيح، فأيهما خير أعبادة آلهتنا أم عبادة المسيح، على أنه إن قال عبادة المسيح أقر بعبادة غير الله، وكذلك إن قال عبادة الأوثان. وإن قال ليس في عبادة المسيح خير، قصر به عن المنزلة التي ليست لاحد من سائر العباد. وجوابهم عن ذلك إن اختصاص المسيح بضرب من التشريف والانعام عليه لا يوجب العبادة له كما لا يوجب ذلك أنه قد أنعم على غيره النعمة. ووجه اتصال سؤالهم بما قبله انه معارضة لالهية الأوثان بإلهية المسيح كمعارضة إنشاء المسيح عن غير ذكر بانشاء آدم عليه السلام من غير ذكر. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله ما ضربوه يعني المسيح مثلا " إلا جدلا " أي خصومة لك ودفعا لك عن الحق، لان المجادلة لا تكون إلا وأحد المجادلين مبطلا. والمناظرة قد تكون بين المحقين، لأنه قد يعارض ليظهر له الحق. ثم قال تعالى " بل هم قوم خصمون " أي جدلون في دفع الحق بالباطل. ثم وصف المسيح عليه السلام فقال " إن هو الا عبد أنعمنا عليه " أي ليس هو سوى عبد خلقناه وأنعمنا عليه " وجعلناه مثلا لبني إسرائيل " قال السدي وقتاة: يعني موعظة وعبرة لهم يعتبرون به ويتعظون به. ثم قال " ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة " أي بدلا منكم معاشر بني آدم ملائكة في الأرض " يخلفون " بني آدم غير أنه أنشأ بني آدم لاسباغ النعمة عليهم. وقرأ قالون عن نافع " آلهتنا " بهمزة واحدة بعدها مدة. الباقون بهمزتين على أصولهم، غير أنه لم يفصل أحد بين الهمزتين بألف، وإنما حققهما أهل الكوفة وروح. ولين الباقون الثانية. وقال أبو عبد الله بن خالويه: هي ثلاث ألفات الأولى للتوبيخ والتقرير بلفظ الاستفهام والثانية الف الجمع والثالثة أصلية. والأصل " أآلهتنا " فصارت الهمزة الثانية مدة ثم دخلت الف الاستفهام.
1- سورة 3 آل عمران آية 59.
2- سوره 21 الأنبياء آية 98.