الآيات 16-20

قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ، وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر " أو من ينشأ " بضم الياء وتشديد الشين. الباقون بفتح الياء والتخفيف. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر " عند الرحمن " بالنون. الباقون " عباد " على الجمع وقرأ نافع " أأشهدوا " بضم الألف وفتح الهمزة من (أشهدت) الباقون " اشهدوا " من (شهدت) من قرأ (ينشأ) بالتشديد جعله في موضع مفعول لأنه تعالى قال " إنا أنشأناهن إنشاء " (1) فأنشأت ونشأت بمعنى إذا ربيت. وتقول: نشأ فلان ونشأه غيره وغلام ناشئ أي مدرك. وقيل في قوله " ثم أنشأناه خلقا آخر " (2) قال هو نبات شعر إبطه ومن خفف جعل الفعل لله، لان الله أنشأهم فنشؤوا، ويقال للجوار الملاح: النشأ قال نصيب:

ولولا أن يقال صبا نصيب * لقلت بنفسي النشأ الصغار (3)

ومن قرء عباد فجمع (عبد) فهو كقوله " لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون " (4) فأراد الله أن يكذبهم في قولهم: إن الملائكة بنات الله، وبين انهم عباده. ومن قرأ " عند " بالنون، فكقوله " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته " (5) وقال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس في مصحفي " عباد " فقال: حكه. ووجه قراءة نافع " أأشهدوا " انه جعله من اشهد يشهد جعلهم مفعولين وقال تعالى (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) (6) من قرأ بفتح الهمزة جعله من شهد يشهد فهؤلاء الكفار إذا لم يشهدوا خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم من أين علموا ان الملائكة بنات الله وهم لم يشهدوا ذلك، ولم يخبرهم عنه مخبر ؟!. لما اخبر الله تعالى عن الكفار انهم جعلوا له من عباده جزءا على ما فسرناه، وحكم عليهم بأنهم يجحدون نعمه ويكفرون أياديه، فسر ذلك وهو انهم قالوا " أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين " في هذا القول حجة عليهم لأنه ليس بحكيم من يختار لنفسه أدون المنزلتين ولغيره أعلاهما، فلو كان على ما يقول المشركون من جواز اتخاذ الولد عليه لم يتخذ لنفسه البنات ويصفيهم بالبنين فغلطوا في الأصل الذي هو جواز اتخاذ الولد عليه، وفي البناء على الأصل باتخاذ البنات، فنعوذ بالله من الخطاء في الدين. ومعنى (أصفاكم) خصكم وآثركم بالذكور واتخذ لنفسه البنات. ثم قال تعالى " وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا " يعني إذا ولد لواحد منهم بنت حسب ما أضافوها إلى الله تعالى ونسبوها إليه على وجه المثل لذلك " ظل وجهه مسودا " أي متغيرا مما يلحقه من الغم بذلك حتى يسود وجهه ويربد " وهو كظيم " قال قتادة معناه حزين، وفى هذا أيضا حجة عليهم لان من اسود وجهه بما يضاف إليه مما لا يرضى فهو أحق ان يسود وجهه بإضافة مثل ذلك إلى من هو اجل منه، فكيف إلى ربه. ثم قال تعالى على وجه الانكار لقولهم " أو من ينشؤ في الحلية " قال ابن عباس " أو من ينشوء في الحلية " المراد به المرأة. وبه قال مجاهد والسدي، فهو في موضع نصب والتقدير أو من ينشؤ في الحلية يجعلون. ويجوز أن يكون الرفع بتقدير أولئك ولده على ما قالوا هم بناته يعني من ينشؤ في الحلية على وجه التزين بها يعني النساء في قول أكثر المفسرين. وقال أبو زيد: يعني الأصنام. والأول أصح " وهو في الخصام غير مبين " في حال الخصومة، فهو ناقص عمن هو بخلاف هذه الصفة من الشبيه على ما يصلح للجدال ودفع الخصم الألد بحسن البيان عند الخصومة، فعلى هذا يلزمهم ان يكونوا بإضافة البنات قد أضافوا أدنى الصفات إليه. ثم قال تعالى " وجعلوا " يعني هؤلاء الكفار " الملائكة الذين هو عباد الرحمن " متذللون له خاضعون له. ومن قرأ بالنون أراد الذين هم مصطفون عند الله " إناثا " فقال لهم على وجه الانكار " اشهدوا خلقهم " ثم قال " ستكتب شهادتهم " بذلك " ويسألون " عن صحتها. وفائدة الآية أن من شهد بمالا يعلم فهو حقيق بأن يوبخ ويذم على ذلك وشهادته بما هو متكذب به على الملائكة أعظم من الفاحشة، للاقدام على تنقصهم في الصفة، وإن كان في ذلك على جهالة. ثم حكى عنهم إنهم قالوا " لو شاء الرحمن ما عبدناهم " كما قالت المجبرة بأن الله تعالى أراد كفرهم، ولو لم يشأ ذلك لما كفروا، فقال الله لهم على وجه التكذيب " مالهم بذلك من علم أن هم إلا يخرصون " أي ليس يعلمون صحة ما يقولونه وليس هم إلا كاذبين. ففي ذلك إبطال مذهب المجبرة في أن الله تعالى يريد القبيح من افعال العباد. لان الله تعالى قطع على كذبهم في أن الله تعالى يشأ عبادتهم للملائكة، وذلك قبيح لا محالة وعند المجبرة الله تعالى شاءه. وقد نفاه تعالى عن نفسه وكذبهم في قولهم فيه.


1- سورة 56 الواقعة آية 35.

2- سورة 23 المؤمنون آية 14.

3- مر في 4 / 304 و 8 / 194.

4- سورة 4 النساء آية 171.

5- سورة 7 الأعراف آية 205.

6- سورة 18 الكهف آية 52.