الآيات 6-10
قوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ، وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون، فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ، وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾
يقول الله تعالى مخبرا " وكم أرسلنا من نبي في الأولين " يعني في الأمم الماضية (وكم) موضوعة للتكثير في باب الخبر، وهي ضد (رب) لأنها للتقليل. ثم اخبر عن تلك الأمم الماضية انه كان ما يجيئهم نبي من قبل الله إلا كانوا يستهزؤن به بمعنى يسخرون منه. فالاستهزاء إظهار خلاف الابطان استصغارا أو استحقارا فالأمم الماضية كفرت بالأنبياء واحتقروا ما أتوا به، وظنوا انه من المخاريق التي لا يعمل عليها لجهلهم وفرط عنادهم، فلذلك حملوا أنفسهم على الاستهزاء بهم، وهو عائد بالوبال عليهم. فان قيل: لم بعث الله الأنبياء مع علمه بأنهم يستهزؤن بهم ولا يؤمنون عنده؟قيل: يجوز أن يكون قوم آمنوا وإن قلوا. وإنما اخبر الله بالاستهزاء عن الأكثر، ولذلك قال في موضع " ومن آمن وما آمن معه إلا قليل " (1) وأيضا فكان يجوز أن يكون لولا إرسالهم لوقع منهم من المعاصي أضعاف ما وقع عند إرسالهم، فصار إرسالهم لطفا في كثير من القبائح، فلذلك وجب وحسن، على أن في إرسالهم تمكينهم مما كلفوه، لأنه إذا كان هناك مصالح لا يمكنهم معرفتها إلا من جهة الرسل وجب على الله أن يبعث إليهم الرسل ليعرفوهم تلك المصالح، فإذا لم يؤمنوا بهم وبما معهم من المصالح أتوا بالقبائح من قبل نفوسهم، والحجة قائمة عليهم وقوله " فأهلكنا أشد منهم بطشا " اخبار منه تعالى انه أهلك الذين هم أشد بطشا من هؤلاء المشركين الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وآله، فلذلك قال " أو مضى مثل الأولين " أي وهو مثل هؤلاء الباقين، ومعناه انكم قد سلكتم في تكذيب الرسل مسلك من كان قبلكم فاحذروا أن ينزل بكم من الخزي ما نزل بهم. قال الحسن: أشد قوة من قومك. ثم قال " ولئن سألتهم " يعني الكفار " من خلق السماوات والأرض " بأن انشاءها واخترعها " ليقولن " أي لم يكن جوابهم في ذلك إلا أن يقولوا " خلقهن " يعني السماوات والأرض " العزيز " الذي لا يغالب ولا يقهر " العليم " بمصالح الخلق، وهو الله تعالى، لأنهم لا يمكنهم أن يحلفوا في ذلك على الأجسام والأوثان لظهور فساد ذلك، وليس في ذلك ما يدل على أنهم كانوا عالمين بالله ضرورة، لأنه لا يمتنع أن يكونوا عالمين بذلك استدلالا وإن دخلت عليهم شبهة في أنه يستحق العبادة، سواه. وقال الجبائي لا يمتنع أن يقولوا بذلك تقليدا لأنهم لو علموه ضرورة لعلموا أنه لا يجوز أن يعبد معه غيره وهو الذي يليق بمذهبنا في المواقاة. ثم وصف العزيز العليم الخالق للسموات والأرض فقال هو " الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا " تسلكونها لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في أسفاركم. وقيل: معناه لتهتدوا إلى الحق في الدين والاعتبار الذي جعل لكم بالنظر فيها.
1- سورة 11 هود آية 40.