الآية 9

قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وبضم الياء وبألف الباقون بفتح الياء بلا الف في قوله (وما يخدعون).

اللغة:

قال أبو زيد: خدعت الرجل أخدعه خدعا بكسر الخاء وخديعة ويقال في المثل: إنك لا خدع من ضب حرشته وقال ابن الاعرابي: الخادع: الفاسد من الطعام ومن كل شئ وأنشد:

ابيض اللون لذيذا طعمه * طيب الريق إذا الريق خدع

اي تغير وفسد وقال أبو عبيدة: يخادعون بمعنى يخدعون قال الشاعر:

وخادعت المنية عنك سرا * فلا جزع الاوان ولا رواعا

التفسير:

وخداع المنافق إظهاره بلسانه من القول أو التصديق خلاف ما في قلبه من الشك والتكذيب وليس لاحد ان يقول: كيف يكون المنافق لله ولرسوله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟وذلك أن العرب تسمي من اظهر بلسانه غير ما في قلبه لينجو مما يخافه مخادعا لمن تخلص منه بما اظهر له من التقية فلذلك سمي المنافق مخادعا من حيث إنه نجا من اجراء حكم الكفر عليه بما أظهره بلسانه فهو وإن كان مخادعا للمؤمنين فهو لنفسه مخادع لأنه يظهر لها بذلك أنه يعطيها أمنيتها وهو يوردها بذلك أليم العذاب وشديد الوبال فلذلك قال: " وما يخدعون إلا أنفسهم " وقوله: " وما يشعرون " يدل على بطلان قول من قال: إن الله لا يعذب إلا من كفر عنادا بعد علمه بوحدانيته ضرورة " لأنه أخبر عنهم بالنفاق وبأنهم لا يعلمون ذلك والمفاعلة وإن كانت تكون من اثنين من كل واحد منهما لصاحبه مثل ضاربت وقاتلت وغير ذلك فقد ورد من هذا الوزن " فاعل " بمعنى (فعل) مثل: قاتله الله وطابقت النعل وعافاه الله وغير ذلك وقد حكينا أن معناه: يخدعون كما قال في البيت المقدم وقيل: إنه لم يخرج بذلك عن الباب ومعناه: ان المنافق يخادع الله بكذبه بلسانه على ما تقدم والله يخادعه بخلافه بما فيه نجاة نفسه كما قال: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) (1) وحكي عن الحسن ان معنى يخادعون الله انهم يخدعون نبيه لان طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله كما قال: (وان يريدوا ان يخدعوك) (2) وقيل معناه: انهم يعملون عمل المخادع كما يقال فلان يسخر من نفسه ومن قرأ (وما يخادعون) بألف طلب المشاكلة والازدواج كما قال: (وان عاقبتم فعاقبوا) (3) وكما قال: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (4) وكما قال الشاعر:

ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقال تعالى: (فيسخرون منهم سخر الله منهم) (5) ومثله كثير وقيل في حجة من قرأ يخادعون بألف هو ان ينزل ما يخطر بباله ويهجس في نفسه من الخداع بمنزلة آخر يجازيه ذلك ويفاوضه فكأن الفعل من اثنين كما قال الشاعر وذكر حمارا أراد الورود:

تذكر من أنى ومن أين شربه * يؤامر نفسية كذي الهجمة الإبل (6)

فجعل ما يكون منه من وروده الماء والتمثل بينهما بمنزلة نفسين وقال الآخر: وهل تطيق وداعا أيها الرجل وعلى هذا قول من قرأ: (قال إعلم ان الله على كل شئ قدير) فوصل فخاطب نفسه ونظائر ذلك كثيرة وإنما دعاهم إلى المخادعة أمور:

أحدها: التقية وخوف القتل

والثاني: ليكرموهم إكرام المؤمنين

الثالث: ليأنسوا إليهم في اسرارهم فينقلوها إلى أعدائهم والخداع مشتق من الخدع وهو اخفاء الشئ مع ايهام غيره ومنه المخدع: البيت الذي يخفى فيه الشئ فان قيل: أليس الكفار قد خدعوا المؤمنين بما أظهروا بألسنتهم حتى حقنوا بذلك دماءهم وأموالهم - وان كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم - قيل: لا نقول خدعوا المؤمنين لأن اطلاق ذلك يوجب حقيقة الخديعة لكن نقول: خادعوهم وما خدعوهم بل خدعوا أنفسهم كما قال في الآية ولو أن انسانا قاتل غيره فقتل نفسه جاز أن يقال: انه قاتل فلانا فلم يقتل إلا نفسه فيوجب مقاتلة صاحبه وينفي عنه قتله والنفس مأخوذة من النفاسة لأنها أجل ما في الانسان تقول: نفس ينفس نفاسة: إذا ضن به وتنافسوا في الامر: إذا تشاحوا والنفس: والروح ونفس عنه تنفيسا: إذا روح عن نفسه والنفس: والدم ومنه النفساء ونفست المرأة والنفس: خاصة الشئ قوله: " وما يشعرون " يعني وما يعلمون يقال ما شعر فلان بهذا الامر وهو لا يشعر به إذ لم يدر شعرا وشعورا ومشعورا قال الشاعر:

عقوا بسهم فلم يشعر به أحد * ثم استفاءوا وقالوا حبذا

الوضح (7) يعني: لم يعلم به أحد واصل الشعر: الدقة شعر به يشعر: إذا اعلمه بأمر يدق ومنه الشعيرة والشعير لان في رأسهما كالشعر في الدقة والمشاعر: العلامات في مناسك الحج كالموقف والطواف وغيرهما وأشعرت البدنة إذا أعلمتها على أنها هدي والشعار ما يلي الجسد لأنه يلي شعر البدن.

الاعراب:

(إلا أنفسهم) نصب على الاستثناء.


1- سورة آل عمران: آية 178.

2- سورة الأنفال: آية 63.

3- سورة النحل: آية 12.

4- سورة الشورى: آية 40.

5- سورة التوبة: آية 80.

6- في الطبعة الإيرانية نفسه بدل نفسية.

7- في الطبعة الإيرانية بدل (عقوا) عفوا وبدل (استفاءوا) استقادوا وبدل (وقالوا) فقالوا.