الآية 6
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾
النزول: نزلت في أبي جهل وفي خمسة من قومه من قادة الأحزاب قتلوا يوم بدر في قول الربيع بن أنس واختاره البلخي والمغربي وقال ابن عباس: نزلت في قوم بأعيانهم من أحبار اليهود ذكرهم بأعيانهم من اليهود الذين حول المدينة وقال قوم: نزلت في مشركي العرب واختار الطبري قول ابن عباس والذي نقوله إنه لابد أن تكون الآية مخصوصة لان حملها على العموم غير ممكن لأنا علمنا أن في الكفار من يؤمن فلا يمكن العموم وأما القطع على واحد مما قالوه فلا دليل عليه ويجب تجويز كل واحد من هذه الأقوال ومن مات منهم على كفره يقطع على أنه مراد بالآية فعلى هذه قادة الأحزاب مرادون على ما قال ربيع بن انس ومن قتل يوم بدر كذلك ومن قال إن الآية مخصوصة بكفار أهل الكتاب قال: لان ما تقدمها مختص بمؤمنيهم فيجب أن يكون ما يعقبها مختصا بكفارهم وقد قلنا إن الآية الأولى حملها على عمومها أولى ولو كانت خاصة بهم لم يجب حمل هذه الآية على الخصوص لما تقدم فيما مضى والذين نصب بأن.
والكفر هو الجحود والستر ولذلك سمي الليل كافرا لظلمته قال الشاعر:
فتذكرا نقلا رشيدا بعد ما * القت ذكاء (1) يمينها في كافر
وقال لبيد: في ليلة كفر النجوم غمامها يعني غطاها والكافور اكمام الكرم الذي يكون فيه والكفري وعاء الطلعة لأنه يستر اللب ومنه قوله تعالى: (كمثل غيث أعجب الكفار نباته) (2) وسمي الزارع كافرا لتغطيته البذر ويقال فلان متكفر بالسلاح إذا تغطي به.
وفي الشرع عبارة عمن جحد ما أوجب الله عليه معرفته من توحيده وعدله ومعرفة نبيه والاقرار بما جاء به من أركان الشرع فمن جحد شيئا من ذلك كان كافرا وربما تعلقت به احكام مخصوصة من منع الموارثة والمناكحة والمدافنة والصلاة عليه وربما لم يتعلق بحسب الدليل عليه قوله تعالى: (سواء عليهم أأنذرتهم) جمع بين الهمزتين أهل الكوفة وابن عامر إلا الحلواني وكذلك في كل همزتين في كلمة واحدة إذا كانت الأولى للاستفهام إلا في مواضع مخصوصة نذكرها فيما بعد الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية وفصل بينهما بالألف أهل المدينة إلا ورشا وأبا عمرو والحلواني عن هشام ومعنى قوله (سواء) أي معتدل مأخوذ من التساوي كقولك متساو وتقول: هذان الأمران عندي سواء أي معتدلان ومنه قوله: (فانبذ إليهم على سواء) (3) يعني بذلك اعلمهم وآذنهم للحرب ليستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منكم للاخر ومعناه: أي الامرين كان منك إليهم الانذار أم ترك الانذار فإنهم لا يؤمنون وقال عبد الله بن قيس الرقيات:
تعدت بي الشهباء نحو ابن جعفر * سواء عليها ليلها ونهارها
يعني بدلك عندها معتدل في السير الليل والنهار لأنها لا فتور فيه ومنه قول الاخر:
وليل يقول المرء من ظلماته * سواء صحيحات العيون وعورها
لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرا ضعيفا من ظلمته وهذا لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر وله نظائر في القرآن كما تقول ما أبالي أقمت أم قعدت وأنت مخبر لا مستفهم لأنه وقع موقع أي كأنك قلت لا أبالي أي الامرين كان منك وكذلك معنى الآية: سواء عليهم أي هذين منك إليهم حسن في موضعه سواء فعلت أم لم تفعل وقال بعض النحويين ان حرف الاستفهام إنما دخل مع سواء وليس باستفهام لان المستفهم إذا استفهم غيره قال: أزيد عندك أم عمرو ويستفهم صاحبه أيهما عنده وليس أحدهما أحق بالاستفهام من الاخر فلما كان قوله: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) بمعنى التسوية أشبه ذلك الاستفهام إذ شبهه بالتسوية وقال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا * واندى العالمين بطون راح
فهذا في صورة الاستفهام وهو خبر لأنه لو أراد الاستفهام لما كان مدحا وقال آخر:
سواء عليه أي حين أتيته * أساعة نحس تتقى أم بأسعد
ولا يجوز أن تقع أو في مثل هذا مكان أم لان أم هي التي تعادل بها الهمزة لا أو والفرق بينهما ان أو يستفهم بها عند أحد الامرين هل حصل أم لا وهو لا يعلمها معا كقول القائل: أذن أو أقام؟إذ المراد تعلمهما فإذا علم واحدا منهما ولم يعلمه بعينه قال إذن أم أقام؟يستفهم عن تعيين أحدهما هذا في الاستفهام وفي الخبر تقول: لا أبالي أقمت أم قعدت أي هما عندي سواء ولا يجوز ان تقول لا أبالي أقمت أو قعدت لأنك ليت بمستفهم من شئ وحكي عن عاصم الجحدري انه قرأ سواو بواو مضمومة لا بهمزة وهذا غلط لان العرب كلها تهمز ما بعده مده يقولون: كساء ورداء وهواء وجزاء وغير ذلك وأما الانذار فهو اعلام وتخويف وكل منذر معلم وليس كل معلم منذرا وقد سمى الله نفسه بذلك فقال: (انا أنذرناكم عذابا قريبا) (4) لان الاعلام يجوز وصفه به والتخويف أيضا كذلك في قوله: (ذلك يخوف الله به عباده) فإذا جاز وصفه بالمعنيين جاز وصفه بلفظ يشتمل عليهما وأنذرت فعل متعد إلى مفعولين كقوله تعالى: (أنذرتكم صاعقة) (وانا أنذرناكم عذابا قريبا) وقد ورد معدا بالباء في قوله تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي) (5) وقيل الانذار هو التحذير من مخوف يتسع زمانه الاحتراز فإن لم يتسع زمانه للاحتراز كان اشعارا ولم يكن انذارا قال الشاعر:
أنذرت عمرا وهو في مهل * قبل الصباح فقد عصى عمرو
فان قيل الذين علم الله منهم انهم لا يؤمنون هل كانوا قادرين على الايمان أم لا؟فان قلتم ما كانوا قادرين وقد كلفهم الله تعالى الايمان فقد كلفهم ما لا يقدرون عليه وهذا لا يجوز - وان كانوا قادرين - فقد قلتم: انهم كانوا قادرين على تجهيل الله قلنا: هذا يلزم المخالف مثله فإنه لا خلاف أنهم مأمورون بالايمان فيقال لهم: انه لا يجب ذلك كما لا يجب إذا كانوا مأمورين بالايمان ان يكونوا مأمورين (بابطال ما علم الله) (6) أليس الله قد علم أنه لا يقيم القيامة اليوم؟أيقولون: انه قادر على اقامتها أم لا؟فان قلتم: انه لا يقدر فقد عجزتم الله وان قلتم: انه يقدر فقد قلتم: انه يقدر على أن يجهل نفسه والجواب الصحيح عن ذلك: أن العلم يتناول الشئ على ما هو به ولا يجعله على ما هو به فليس يمتنع ان يعلم حصول شئ بعينه وإن كان غيره مقدورا ألا ترى أن من خير بين الصدق والكذب وقد علم أن كل واحد منهما يقوم مقام صاحبه في باب الغرض وقد علم قد علم قبح الكذب وحسن الصدق لا يجوز أن يختار الكذب على الصدق - وإن كان قادرا على الكذب - فبان بذلك صحة ما قلناه
1- وتصحيح البيت: ثقلا بدل نقلا ورثيدا بدل رشيدا ورثد المتاع وغيره فهو مرثود: وضع بعضه فوق بعض والثقل بيض النعام ذكاء: الشمس.
2- سورة الحديد آية: 20.
3- سورة الأنفال آية 59.
4- سورة النساء: آية 40.
5- سورة أنبياء: آية 45.
6- ما بين القوسين وضعه المصحح في الطبعة الإيرانية.