الآية 195
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾
القراءة:
قرأ حمزة والكسائي وخلف " وقتلوا وقاتلوا " بتقديم المفعولين على الفاعلين الباقون " قاتلوا وقتلوا " بتقديم الفاعلين على المفعولين، وشدد التاء من (قتلوا) ابن كثير وابن عامر. وقرأ عمر بن عبد العزيز " وقتلوا " بلا الف " وقتلوا " وقال الطبري القراءة بتقديم المفعولين لا تجوز، وهذا خطأ ظاهر، لان من اختار اسم الفاعلين على المفعولين، وجه قراءته أن القتال قبل القتل. ومن قدم المفعولين على الفاعلين وجه قراءته يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون المعطوف بالواو ويجوز أن يكون أولا في المعنى. وإن كان مؤخرا في اللفظ، لان الواو، لا يوجب الترتيب وهي تخالف الفاء في هذا المعنى، وهكذا خلافهم في سورة التوبة.
والثاني: أن يكون لما قتل منهم قاتلوا ولم يهنوا ولم يضعفوا لمكان من قتل منهم كما قال تعالى (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) (1) وقوله: (فاستجاب لهم ربهم أني) أي بأني وحذف الباء، ولو قرئ بكسر الهمزة كان جائزا على تقدير: قال لهم " إني لا أضيع عمل عامل منكم " ومعنى قوله: " فاستجاب " أجابهم ربهم يعني الداعين بما تقدم وصف الله إياهم وأجاب واستجاب بمعنى قال الشاعر:
وداع دعا يامن يجيب إلى الندى * فلم يستجبه عند ذاك مجيب (2)
أي لم يجبه. " بأني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " من زائدة كما يقال كان من الحديث ومن الامر ومن القصة. ومن ههنا أحسن، لان حرف النفي قد دخل في قوله: " لا أضيع " من ههنا ليست زائدة، لأنها دخلت لمعنى ولا يصلح الكلام إلا بها، لأنها للترجمة والتفسير عن قوله: " منكم " بمعنى لا أضيع عمل عامل منكم من الذكور والإناث، قالوا ولا تكون من زائدة إلا في موضع جحد. وقوله: (لا أضيع عمل عامل منكم) لم يدركه الجحد لأنك لا تقول لا أضرب غلام رجل في الدار، ولا في البيت، فيدخل ولا، لأنه لم ينله الجحد ولكن (من) مفسرة. وقوله: " لأكفرن عنهم سيئاتهم " معناه لاذهبنا واسقط عقابها، وهذه الآية، والتي قبلها - في قول البلخي - نزلت في المتبعين للنبي صلى الله عليه وآله والمهاجرين معه ثم هي في جميع من سلك سبيلهم واتبع آثارهم من المسلمين. وقوله: " لأكفرن عنهم سيئاتهم " أي لأغطينها وأمحونها وأحطنها عنهم بما ينالهم من ألم الهجرة والجهاد واحتمال تلك الشدائد في جنب الله. وحمل السيئات على الصغائر. وقوله: " ثوابا من عند الله " نصب على المصدر ذكر على وجه التأكيد، لان معنى " ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار " (3) لأثيبنهم، ومثله " كتاب الله عليكم " لان قوله: " حرمت عليكم أمهاتكم وبنانكم " (4) معناه كتب الله عليكم (وكتاب الله عليكم) مؤكد ومثل ذلك " صنع الله الذي " (5) لان قوله: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب " (6) قد علم منه أن ذلك صنع الله. وقوله: " من ذكر أو أنثى " روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله: ما بال الرجال يذكرون، ولا تذكر النساء في الهجرة، فأنزل الله هذه الآية روي ذلك عن مجاهد، وعمرو بن دينار، ويقال ان القائل لرسول الله صلى الله عليه وآله كانت أم سلمة (رض). وقوله: " بعضكم من بعض " قال أبو علي: يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يريد بقوله: " بعضكم " العاملين " من بعض " يعني بعض العمل الذي أمرتم به.
والثاني: أن يكون عنى بقوله: " بعضكم من بعض " أن ذكور المؤمنين وإناثهم مستوون في أن لا يضيع الله لاحد منهم عملا، وان يجازيهم على طاعاتهم، فإناث المؤمنين بعض المؤمنين، وكذلك ذكورهم، فبعضهم كبعض في هذا الباب. وقال الطبري " بعضكم " يعني الذين يذكرونني " قياما وقعودا وعلى جنوبهم " من بعض في النصرة، والملة، والدين، وحكم جميعكم فيما أفعل بكم حكم أحدكم في " أني لا أضيع عمل عامل " ذكر منكم ولا أنثى. والإضاعة: الاهلاك. ضاع الشئ يضيع: إذا هلك. وأضاعه إضاعة وضيعه تضييعا، ومنه الضيعة: القرية. وقوله: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم) يعني الذين هاجروا عن قومهم من أهل الكفر في الله إلى اخوانهم المؤمنين " وأخرجوا من ديارهم " هم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة " وأوذوا في سبيلي " بمعنى أوذوا في طاعتي وعبادتي، وديني. وذلك هو سبيل الله " وقاتلوا " يعني في سبيل الله " وقتلوا " فيها " لأكفرن عنهم سيئاتهم " يعني لأمحونها عنهم، ولأتفضلن عليهم بعفوي ورحمتي، ولأغفرنها لهم. وذلك يدل على أن إسقاط العقاب تفضل على كل حال. " ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا " يعني جزاء لهم على أعمالهم " والله عنده حسن الثواب " معناه أن عنده من حسن الجزاء على الاعمال ما لا يبلغه وصف واصف مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.
1- سورة آل عمران: آية 146.
2- قائله كعب بن سعد الغنوي الأصمعيات: 98 والقصيدة مشهورة، يرثي بها أخاه أبا المغوار مر منها أبيات متفرقة. وقد مر هذا البيت في 1: 84.
3- سورة المائدة: آية 13.
4- سورة النساء: آية 22.
5- سورة النمل: 88.
6- سورة النمل: 88.