الآيات 36-40

قوله تعالى: ﴿فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ، وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة إلا عاصما (كبير الاثم) على التوحيد. الباقون (كبائر) على الجمع جمع التكسير. ومن وحد قال: إنه اسم جنس يقع على القليل والكثير. وقال قوم: أراد الشرك فقط. ومن جمع، فلان أنواع الفواحش، واختلاف أجناسها كثيرة. يقول الله تعالى مخاطبا لمن تقدم وصفه (وما أوتيتم) يعني ان الذي أوتيتموه وأعطيتموه (من شي ء) من الأموال، (فمتاع الحياة الدنيا) أي هو شئ ينتفع به عاجلا لا بقاء له ولا محصول له. والمتاع يخير به عن الامتاع ويعبر به عن الأثاث، ففي ذلك تزهيد في الدنيا وحث على عمل الآخرة. ثم قال (وما عند الله) يعني من الثواب في الجنة (خير وأبقى) من هذه المنافع العاجلة التي هي قليلة والآخرة باقية دائمة، وهذه فانية منقطعة. ثم بين انها حاصلة (للذين آمنوا) بتوحيد الله وتصديق رسله (وعلى ربهم يتوكلون) أي يفوضون أمرهم إليه تعالى دون غيره فالتوكل على الله تفويض الامر إليه باعتقاد أنها جارية من قبله على أحسن التدبير مع الفزع إليه بالدعاء في كلما ينوب. والتوكل واجب، الترغيب فيه كالترغيب في جملة الايمان. وقوله (والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش) يحتمل أن يكون (الذين) في موضع جر بالعطف على قوله (للذين) فكأنه قال وما عند الله خير وأبقى المؤمنين المتوكلين على ربهم المجتنبين كبائر الاثم والذنوب. والفواحش جمع فاحشة، وهي أقبح القبيح. ويحتمل أن يكون في موضع رفع بالابتداء، ويكون الخبر محذوفا، وتقديره الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش (وإذا ما غضبوا) مما يفعل بهم من الظلم والإساءة (هم يغفرون) ويتجاوزون عنه ولا يكافونهم عليه لهم مثل ذلك. والعفو المراد في الآية هو ما يتعلق بالإساءة إلى نفوسهم الذي لهم الاختصاص بها فمتى عفوا عنها كانوا ممدوحين. فأما ما يتعلق بحدود الله ووجوب حدوده فليس للامام تركها ولا العفو عنها، ولا يجوز له ان يعفو عن المرتد وعمن يجرى مجراه. ثم زاد في صفاتهم فقال (والذين استجابوا لربهم) في ما دعاهم إليه (وأقاموا الصلاة) على حقها (وأمرهم شورى بينهم) أي لا ينفردون بأمر حتى يشاوروا غيرهم، لأنه قيل: ما تشاور قوم إلا وفقوا لأحسن ما يحضرهم (ومما رزقناهم ينفقون) في طاعة الله وسبيل الخير. ثم قال (والذين إذا أصابهم البغي) من غيرهم وظلم من جهتهم (هم ينتصرون) يعني ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا فيها فيقتلوا غير القاتل ويجنوا على غير الجاني، وفي قوله (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) ترغيب في انكار المنكر. ثم قال (وجزاء سيئة سيئة مثلها) قال أبو نجيح والسدي: معناه إذا قال أخزاه الله متعديا قال له مثل ذلك أخزاه الله. ويحتمل أن يكون المراد ما جعل الله لنا إلا الاقتصاص منه من (النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص) (1) فان للمجني عليه أن يفعل بالجاني مثل ذلك من غير زيادة وسماه سيئة للازدواج، كما قال (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) (2) وقال (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (3) ثم مدح العافي عما له أن يفعله، فقال (فمن عفى وأصلح) عما له المؤاخذة فيه " فأجره " في ذلك وجزاؤه " على الله " فإنه يثيبه على ذلك. وقوله (إنه لا يحب الظالمين) قيل في معناه وجهان:

أحدهما: إني لم أرغبكم في العفو عن الظالم لأني أحبه، بل لأني أحب الاحسان والعفو

الثاني: إني لا أحب الظالم لتعديه ما هو له إلى ما ليس له في القصاص ولا غيره. وقيل الكبائر الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنات، وعقوق الوالدين، واكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، واكل الحرام. وعندنا كل معصية كبيرة، وإنما تسمى صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها لا انها تقع محبطة، لان الاحباط باطل عندنا. وقيل إن هذه الآيات نزلت في قوم من المهاجرين والأنصار.


1- سورة 5 المائدة آية 48.

2- سورة 16 النحل آية 126.

3- سورة 3 البقرة آية 194.