الآيات 1-5
مكية في قول قتادة ومجاهد، وليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وهي ثلاث وخمسون آية في الكوفي، وخمسون في البصري والمدنيين.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿حم، عسق، كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
خمس آيات في الكوفي وثلاث في ما عداه عد الكوفيون (حم) وعدوا (عسق) ولم يعده الباقون. قال أبو عبد الله بن خالويه سألت ابن مجاهد، فقلت: إن القاف أبعد من الميم، فلم اظهر حمزة النون عند الميم في (طسم) ولم يظهرها عند القاف في (عسق) فقال والله ما فكرت في هذا قط، قال أبو عبد الله الحجة في ذلك ان (طسم) أول سورة النمل ثم جاءت سورتان فيهما الميم، فبين ليعلم ان الميم زائدة على هجاء السين واتفق أهل الكوفة على أن لم يفردوا السين بين حرفين في الكلام هذا على الأصل. واما الحجة من جهة التخفي، فان النون تدغم في الميم وتخفى عند القاف والمخفي بمنزلة المظهر، فلما كره التشديد في (طسم) اظهروا لما كان المخفي بمنزلة الظاهر ولم يحتج إلى اظهار القاف، قال الفراء: ذكر عن ابن عباس أنه قال (حمسق) بلا عين. وقال السين كل فرقة تكون. والقاف كل جماعة كانت، قال الفراء وكانت في بعض مصاحف عبد الله مثل ذلك. وقرأ ابن كثير وحده (يوحى إليك) بفتح الحاء على ما لم يسم فاعله، فعلى هذا يكون اسم الله مرتفعا بمحذوف يدل عليه المذكور قال الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة * ومختبط مما تطيح الطوائح (1)
أي يبكيه ضارع، فيكون التقدير يوحى إليك يوحي الله. قال أبو علي: ذكر أن مثل هذه السورة أوحى إلى من تقدم من الأنبياء، فعلى هذا يكون التقدير يوحي إليك هذه السورة كما أوحى إلى الذين، وقال الزجاج، والفراء: يقال إن (حمعسق) أوحيت إلى كل نبي كما أوحيت إلى محمد صلى الله عليه وآله قال ابن عباس: وبها كان علي عليه السلام يعلم الفتن. وقرأ الباقون يوحي - بكسر الحاء - فيكون على هذا اسم الله مرتفعا بأنه فاعل (يوحي) وقد قرئ شاذا (نوحي) بالنون مع كسر الحاء فعلى هذا يحتمل رفع اسم الله لوجهين:
أحدهما: أن يكون رفعا بالابتداء
الثاني: أن يكون مرتفعا بفعل مقدر يدل عليه (يوحي) الأول، كما قلناه في من فتح الحاء. ويجوز أن يكون بدلا من الضمير. ويجوز أن يجعل اسم الله خبر ابتداء محذوف، وتقديره هو الله العزيز الحكيم. وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر (يكاد) بالياء (ينفطرن) بالياء والنون، لان تأنيث السماوات غير حقيقي، وقد تقدم الفعل ولذلك أتت (يتفطرن) لما تأخر الفعل عن السماوات وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة في رواية حفص (تكاد) بالتاء لتأنيث السماوات (وينفطرن) بالياء والنون لما قدمناه. وقرأ نافع والكسائي (يكاد) بالياء لما قلناه من أن التأنيث غير حقيقي (يتفطرن) بياء، وتاء و (يتفطرن) في معنى تنفطر وهو مضارع فطرته فتفطر وفطرته بالتخفيف فانفطر، ومعنى بتفطرن يتشققن. قيل إنما عدوا (حم) و (عسق) آية ولم يعد (طس) لان (طس) لما انفرد عن نظيره من (طسم) فأشبه الاسم حمل عليه، ولما لم ينفرد (حم) عن نظيره جرى عليه حكم الجملة التامة التي تعد آية من اجل انها آية. فلما اجتمع في (طس) الانفراد عن النظير وأشبه (قابيل) وكل واحد من هذين الوجهين يقتضي مخالفة حكم (طسم) وجب الخلاف. وأما انفراد (حاميم) بالزنة فقط، لم يجب الخلاف كما وجب في ما اجتمع فيه سببان. وفى (حم) من الفائدة تعظيم الله - عز وجل - السورة وتسميتها وتشريفا لها وتنويها باسمها وإجراؤها في التفصيل مجرى ما يعقل في فضله على مالا يعقل من الأجسام والاعراض. وقيل إن (حم عسق) انفردت بأن معاينها أوحيت إلى سائر الأنبياء، فلذلك خصت بهذه التسمية. وقيل إنما فصل (حم عسق) من سائر الحواميم ب? (عسق) لان جميعها استفتح بذكر الكتاب على التصريح به إلا هذه السورة فإنه دل عليه دلالة التضمين بذكر الوحي الذي يرجع إلى الكتاب، والوحي أعم من الكتاب في معناه إلا أنه دال في هذا الموضع على الكتاب بهذه الصفة. وقوله (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك) قيل في المشبه به في قوله (كذلك) وجها:
أحدهما: كالوحي الذي تقدم يوحي إليك
الثاني: هذا الوحي الذي يأتي في هذه السورة يوحى إليك، لان ما لم يكن حاضرا يراه صلح فيه (هذا) لقرب وقته و (ذلك) لبعده في نفسه. ومعنى التشبيه في (كذلك) أن بعضه كبعض في أنه حكمة وصواب بما تضمنه من الحجج والمواعظ والفوائد التي يعمل عليها في الدنى (وإلى الذين من قبلك) معناه مثل ذلك أوحى إلى الذين من قبلك من الأنبياء وتعبدهم بشريعة كما تعبدك بمثل ذلك. وقوله (العزيز الحكيم) معناه القادر الذي لا يغالب الحكيم في جميع أفعاله. ومن كان بهاتين الصفتين خلصت له الحكمة في كل ما يأتي به، لأنه العزيز الذي لا يغالب والغني الذي لا يحتاج إلى شئ، ولا يجوز أن يمنعه مانع مما يريده، وهو الحكيم العليم بالأمور لا يخفى عليه شئ منها لا يجوز أن يأتي إلا بالحكمة. فاما الحكيم غيره يحتاج فلا يوثق بكل ما يأتي به إلا أن يدل على ذلك الحكمة دليل. قوله (له ما في السماوات والأرض) معناه أنه مالكهما ومدبرهما وله التصرف فيهما ولا أحد له منعه من ذلك ويكون (العلي) مع ذلك بمعنى المستعلي على كل قادر العظيم في صفاته التي لا يشاركه فيها أحد. وقوله (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن " قيل في معناه قولان:
أحدهما: قال ابن عباس وقتادة والضحاك: يتفطرن من فوقهن من عظمة الله وجلاله
الثاني: ان السماوات تكاد تتفطرن من فوقهن استعظاما للكفر بالله والعصيان له مع حقوقه الواجبة على خلقه، وذلك على وجه التمثيل ليس لان السماوات تفعل شيئا أو تنكر شيئا، وإنما المراد ان السماوات لو انشقت لمعصيته استعظاما لها أو لشئ من الأشياء لتفطرت استعظاما لكفر من كفر بالله وعبد معه غيره. وقوله (الملائكة يسبحون بحمد ربهم) معناه ينزهونه عما لا يجوز عليه من صفات، ومالا يليق به من افعال (ويستغفرون لمن في الأرض) من المؤمنين. وفي ذلك صرف الاهلاك لهم ولغيرهم من أهل الأرض يصرفه عنهم. ثم قال (ألا إن الله هو الغفور الرحيم) لعباده عصيانهم تارة بالتوبة وتارة ابتداء منه كل ذلك تفضلا منه ورأفة بهم ورحمة لهم.
1- مر هذا البيت في 4 / 310 و 6 / 329 و 7 / 440.