الآيات 51-55
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا، فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا، وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا، وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا﴾
يقول الله تعالى " لو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا " يخوفهم بالله ويحذرهم من معاصيه. والمعنى: لو شئنا لقسمنا النذر بينهم، كما قسمنا الأمطار بينهم، ففي ذلك اخبار عن قدرته على ذلك، لكن دبرنا على ما اقتضته مصلحتهم، وما هو أعود عليهم في دينهم ودنياهم. وفيه امتنان على النبي صلى الله عليه وآله بأنا " لو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا " فيخف عنك كثير من عب ء ما حملته، لكنا حملناك ثقل أوزار جميع القرى لتستوجب بصبرك عليه إذا صبرت عظيم المنزلة وجزيل الكرامة. والنذير هو الداعي إلى ما يؤمن معه الخوف من العقاب، والانذار الاعلام بموضع المخافة. والنذر عقد البر على انتفاء الخوف، يقال تناذر القوم تناذرا إذا انذر بعضهم بعضا. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله " فلا تطع الكافرين " يا محمد بالإجابة إلى ما يريدون " وجاهدهم " في الله " جهادا كبيرا " شديدا، والهاء في قوله " به " عائدة إلى القرآن - في قول ابن عباس والحسن - وقال الحسن: معنى " فلا تطع الكافرين " لا تطعهم فيما يصرفك عن طاعة الله. وقيل: فلا تطعهم: بمعاونتهم فيما يريدونه مما ببعد عن دين الله، وجاهدهم بترك طاعتهم. ثم عاد تعالى إلى تعديد نعمه عليهم فقال (وهو الذي مرج البحرين) ومعناه أرسلهما في مجاريهما، كما ترسل الخيل في المرج، فهما يلتقيان، فلا يبغي الملح على العذب ولا العذب على الملح، بقدرة الله. والعذب الفرات: وهو الشديد العذوبة، والملح الأجاج يعني المر. ثم قال (وجعل بينهما برزخا) أي حاجزا يمنع كل واحد منهما من تغيير الآخر (وحجرا محجورا) معناه يمنع أن يفسد أحدهما الآخر. وقال المبرد: شبه الخلط بحجر البيت الحرام. وأصل المرج الخلط. ومنه قوله " في امر مريج " (1) أي مختلط. وفى الحديث: مرجت عهودهم أي اختلطت، وسمي المرج بذلك، لأنه يكون فيه أخلاط من الدواب. ومرجت دابتك إذا ذهبت بتخليتك حيث شاءت قال الراجز: رعى بها مرج ربيع ممرجا (2) و (مرج البحرين) معناه خلا بينهما، تقول: مرجت الدابة وأمرجتها إذا خليتها ترعى. ثم قال تعالى (وهو الذي خلق من الماء بشرا) يعني من النطفة. وقيل الماء الذي خلق الله منه آدم بشرا أي انسانا، فجعل ذلك الانسان (نسبا وصهرا) فالنسب ما رجع إلى ولادة قريبة، والصهر خلطة تشبه القرابة. وقيل الصهر المتزوج بنت الرجل أو أخته. وقال الفراء: النسب الذي لا يحل نكاحه، والصهر النسب الذي يحل نكاحه، كبنات العم، وبنات الخال ونحوهما. وقيل: النسب سبعة أصناف ذكرهم الله في (حرمت عليكم أمهاتكم...) إلى قوله (وبنات الأخت). والصهر خمسة أصناف ذكرهم في (أمهاتكم اللاتي أرضعنكم...) إلى قوله (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) (3) ذكره الضحاك. وقوله (وكان ربك قديرا) أي قادرا على جميع ما أنعم به عليكم. ثم اخبر عن الكفار فقال (ويعبدون من دون الله) الأصنام والأوثان التي لا تنفعهم ولا تضرهم، لان العبادة ينبغي أن توجه إلى من يملك النفع والضر مطلقا. ثم قال (وكان الكافر على ربه ظهيرا) قال الحسن ومجاهد وابن زيد: يظاهر الشيطان على معصية الله. وقيل: (ظهيرا) معناه هينا كالمطرح. والأول هو الوجه. وقيل: معنى (ظهيرا) معينا. ووصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، يدل على بطلان فعل الطباع، لأنها موات مثلها. والفعل لا يصح إلا من حي قادر.
1- ديوانه (دار بيروت) 93 وقد مر في 4 / 460.
2- سورة 50 ق آية 5.
3- اللسان (مرج).