الآيات 36-40

قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾

قوله " واما ينزغنك " أصله (إن) التي للشرط وزيد عليها (ما) تأكيدا فأشبه ذلك القسم، فلذلك دخلت نون التأكيد في قوله " ينزغنك " كما تقول: والله ليخرجن. والنزغ النخس بما يدعوا إلى الفساد ومنه قوله " من بعد ان نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي " (1) فنزغ الشيطان وسوسته ودعاؤه إلى معصية الله بايقاع العداوة بين من يجب موالاته، يقال نزغ ينزغ نزغا فهو نازغ بين رجلين. وفلان ينزغ فلانا كأنه ينخسه بما يدعوه إلى خلاف الصواب. والمعنى وإن ما يدعوك إلى المعاصي نزغ من الشيطان بالاغواء والوسوسة " فاستعذ بالله " ومعناه اطلب الاعتصام من شره من جهة الله واحذر منه وامتنع من جهته بقوة الله، فنحن نستعيذ بالله من شر كل شيطان وشر كل ذي شر من انس وجان. وقوله " إنه هو السميع العليم " يعني انه سميع لأقوالكم من الاستعاذة وغيرها عليم بضمائركم قادر على إجابة دعائكم وقوله " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر " معناه ومن أدلته وحججه الباهرة الدالة على توحيده وصفاته التي باين بها خلقه الليل بذهاب الشمس عن بسيط الأرض والنهار بطلوعها على وجهها بالمقادير التي أجريا عليه ورتبا فيه بما يقتضي تدبير عالم بهما قادر على تصريفهما، لان ذلك لا يقدر عليه غير الله. والشمس والقمر وجه الدلالة فيهما أن الاجرام الثقيلة لا تقف بغير عمد ولا تتصرف على غير قرار ولا عماد إلا أن يصرفهما قادر ليس كالقادرين من الأجسام التي تحتاج في نقلها وتمسكها إلى غيرها، وكل جسم ثقيل يصرف من غير عماد فمصرفه هو الله تعالى. والافعال الدالة على الله تعالى على وجهين:

أحدهما: مالا يقدر عليه إلا هو كخلق الحياة والقدرة والأجسام وغير ذلك

والآخر: أنه إذا وقع على وجه مخصوص لا يتأتى من القادر بقدرة وإن كان جنسه مقدورا للعباد كتسكين الأرض من غير عمد وتصرف الشمس والقمر بكونها مرة صاعدة ومرة هابطة ومرة طالعة ومرة غاربة مع ثقل أجرامهما وبعدهما من عماد لها أعظم دلالة على أن لهما مصرفا ومدبرا لا يشبههما ولا يشبهه شئ. قال تعالى " لا تسجدوا للشمس ولا للقمر " كما يفعل قوم من المجوس بل " اسجدوا لله الذي خلقهن " وأنشأهن. وإنما قال " خلقهن " لأنه أجري مجرى جمع التكسير، ولم يغلب المذكر على المؤنث، لأنه في مالا يعقل. وقال الزجاج: تقديره الذي خلق هذه الآيات " إن كنتم إياه تعبدون " أي ان كنتم تقصدون بعبادتكم الله فوجهوا العبادة إليه دون الشمس والقمر. ثم قال " فان استكبروا " يعني هؤلاء الكفار أي تكبروا عن توجيه العبادة إلى الله وأبوا إلا عبادة الأصنام " فالذين عند ربك " يعني من الملائكة " يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون " أي لا يفترون من عبادته ولا يملونه. والسجود عند أصحابنا عند قوله " إن كنتم إياه تعبدون " وهو مذهب أبي عمرو بن العلا. وعند الباقين عند قوله " وهم لا يسأمون ". ثم قال تعالى " ومن آياته " أي من أدلته الدالة على توحيده وإخلاص العبادة له " إنك ترى الأرض خاشعة " يعني دارسة مهشمة - في قول قتادة والسدي - والخاشع الخاضع فكان حالها حال الخاضع المتواضع " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت " أي تحركت بالنبات " وربت " قال السدي: معناه انفتحت وارتفعت قبل ان تنبت. وقرئ " ربأت " بمعنى عظمت، ومعنى ربأت ارتفعت - ذكره الزجاج - ثم قال " إن الذي أحياها " يعني من أحيا الأرض بما أنزله من الماء حتى تنبت " لمحيي الموتى " مثل ذلك بعد ان كانوا أمواتا ويرد فيها الأرواح، لأنه قادر على ذلك. ومن قدر على ذلك قدر على هذا، لأنه ليس أحدهما بأعجب من الآخر " انه على كل شئ قدير " يصح أن يكون مقدورا له، وهو قادر لا تتناهى مقدوراته. ثم قال " إن الذين يلحدون في آياتنا " معناه الذين يميلون عن الحق في أدلتنا يقال: الحد يلحد إلحادا. وقيل: لحد يلحد أيضا. وقال مجاهد: معناه ما يفعلونه من المكاء والصفير. وقال أبو روق: يعني الذين يقعون فيه " لا يخفون علينا " بل نعلمهم على التفصيل، لا يخفى علينا شئ من أحوالهم. ثم قال على وجه الانكار عليهم والتهجين لفعلهم والتهديد لهم " أفمن يلقى في النار " جزاء على كفره ومعاصيه " خير أم من يأتي آمنا " من عذاب الله جزاء على معرفته بالله وعمله بالطاعات. ثم قال " اعملوا ما شئتم " ومعناه التهديد وإن كان بصورة الامر، لأنه تعالى لم يخيرنا، ويجبنا أن نفعل ما شئنا، بل نهانا عن القبائح كلها. ثم قال " إنه بما تعملون بصير " أي عالم بأفعالكم لا يخفى عليه شئ منها فيجازيكم بحسبها.


1- سورة 12 يوسف آية 100.