الآيات 35-40

قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا، فَقُلْنَا اذْهَبَا إلى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا، وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا، وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا، وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾

أقسم الله تعالى بأنه آتى موسى الكتاب يعني التوراة، وأنه جعل معه (أخاه (هارون وزيرا، يحمل عنه أثقاله، وأنه قال لهما وأوحى اليهما وأمرهما بأن يذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآيات الله وجحدوا أدلته، يعني فرعون وقومه، وأخبر أنهم لم يقبلوا منهما وجحدوا نبوتهما، فأهلكهم الله ودمرهم تدميرا، والتدمير الاهلاك بأمر عجيب ومثله التنكيل، يقال: دمر على فلان إذا هجم عليه بالمكروه. ثم قال " وقوم نوح " أي أغرقنا قوم نوح لما كذبوا الرسل " أغرقناهم وجعلناهم للناس آية " وعلامة. والتغريق الاهلاك بالماء الغامر، وقد غرق الله تعالى قوم نوح بالطوفان، وهو مجئ ماء السماء المنهمر، وماء الأرض الذي فجر الله تعالى عيونها حتى التقى الماء، أي أتى على أمر على قد قدره الله، فطبق الأرض ولم ينج إلا نوحا ومن كان معه راكبا في السفينة، ويقال: فلان غريق في النعمة تشبيها بذلك. وقوله " لما كذبوا الرسل " يعني نوحا ومن تقدم من الأنبياء. وقيل: المعني نوحا والرسل من الملائكة. وقيل: نوحا ومن بعده من الرسل، لان الأنبياء يصدق بعضهم بعضا في توحيد الله وخلع الأنداد، فمن كذب بواحد منهم فقد كذب بهم جميعهم، وقال الحسن: تكذيبهم بنوح تكذيب لسائر الرسل. ثم قال تعالى: إنا مع إهلاكهم العاجل (اعتدنا للظالمين) نفوسهم (عذابا أليما) أي مؤلما موجعا. وقوله (وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا) معناه أهلكنا هؤلاء أيضا، يقال: (عاد) هم القوم الذين بعث الله إليهم هودا، و (ثمود) هم الذين بعث الله إليهم صالحا، وأصحاب الرس قال عكرمة: الرس بئر رسوا فيها نبيهم أي ألقوه فيها. وقال قتادة: هي قرية باليمامة، يقال لها: (فلج) وقال أبوا عبيدة: الرس كل محفور - في كلام العرب - وهو المعدن، قال الشاعر:

سبقت إلى فرط ناهل * تنابلة يحفرون الرساسا (1)

اي المعادن. وقيل: الرس البئر التي لم تطو بحجارة، ولا غيرها، يقال: رسه يرسه رسا إذا دسه. وقيل: أصحاب الرس هم أصحاب (ياسين) بأنطاكية الشام، ذكره النقاش. وقال الكلبي: هم قوم بعث الله تعالى إليهم نبيا فاكلوه، وهم أول من عمل نساؤهم السحر. وعن أهل البيت (ع) انهم قوم كانت نساؤهم سحاقات. وقوله (وقرونا بين ذلك كثيرا) اي أهلكنا قرونا بين هؤلاء الذين ذكرناهم كثيرا. وقيل: القرن سبعون سنة. وقال إبراهيم: أربعون سنة. وقوله (وكلا ضربنا له الأمثال) تقديره ودللنا كلا ضربنا له الأمثال، فلما كفروا بها دمرناهم تدميرا (وكلا تبرنا تتبيرا) اي أهلكنا كلا منهم إهلاكا. والتتبير تكبير الاهلاك، والتبر مكسر الزجاج، ومكسر الذهب. وقوله (ولقد اتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء) يعني ان هؤلاء الكفار قد جاؤوا إلى القرية التي أهلكها الله بالمطر السوء (أفلم يكونوا يرونها) فيعتبروا بها. والقرية هي قرية (سدوم) قرية قوم لوط، والمطر السوء الحجارة التي رموا بها - في قول ابن عباس - ثم قال (بل) رأوها، وإنما لم يعتبروا بها، لأنهم (كانوا لا يرجون نشورا) اي لا يخافون البعث لاعتقادهم جحده، قال الهذلي:

إذا لسعته الدير لم يرج لسعها * وخالفها في بيت نوب عوامل (2)

فالدبر النحل اي لم يخف. وقيل: ركبوا المعاصي، لأنهم لا يرجون ثواب من عمل خيرا بعد البعث.


1- مجاز القرآن 1 / 177 انظر 5 / 44 تعليقة 2 من هذا الكتاب.

2- قائله لنابغة الجعدي. تفسير القرطبي 13 / 32 والطبري 19 / 9 واللسان (رسس).