الآيات 21-25
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ، فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ، وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾
هذا حكاية من الله من الكفار في الآخرة بعد ما شهدت عليهم أبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون من المعاصي في دار الدنيا أنهم يقولون (لجلودهم لم شهدتم علينا) منكرين عليهم إقامة تلك الشهادة. وقيل: اشتقاق الجلد من التقوية من قولهم: فلان يتجلد على كذا، وهو جلد أي قوي، فتقول جلودهم في الجواب عن ذلك (أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ) فالانطاق جعل القادر على الكلام ينطق إما بالالجاء إلى النطق أو الدعاء إليه. فهؤلاء يلجئهم الله إلى أن ينطقوا بالشهادة. والنطق إدارة اللسان في الفم بالكلام، ولذلك لا يوصف تعالى بأنه ناطق، وإن وصف بأنه متكلم. ومعنى (أنطق كل شئ) أي كل شئ لا يمتنع منه النطق كالاعراض والموات، والفائدة في الاخبار عنهم بذلك التحذير من مثل حالهم في ما ينزل بهم من الفضيحة بشهادة جوارحهم عليهم بما كانوا يعملون من الفواحش. فلم يكن عندهم في ذلك أكثر من هذا القول الذي لا ينفعهم وقال قوم: إن الجوارح تشهد عليهم حين يجحدون ما كان منهم. وقوله (وهو خلقكم أول مرة) اخبار منه تعالى وخطاب لخلقه بأنه الذي حلقهم في الابتداء (واليه ترجعون) في الآخرة إلى حيث لا يملك أحد النهي والامر سواه. وقوله (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم) قال مجاهد (وما كنتم تستترون) أي تتقون. وقال السدي: معناه لم تكونوا في دار الدنيا تستخفون عن معاصي الله بتركها. وقيل: إن الآية نزلت في ثلاثة نفر تساروا، فقال بعضهم لبعض: أترى الله يسمع أسرارنا؟وقال الفراء: معناه لم تكونوا تخافون ان تشهد عليكم جوارحكم فتستتروا منها ولم تكونوا تقدروا على الاستتار منها، ويكون على وجه التغيير أي ولم تكونوا تستترون منها. وقوله (ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) وصف لهؤلاء الكفار بأنهم ظنوا انه تعالى يخفى عليه أسرارهم ولا يعلمها، فبين الله بذلك جهلهم به تعالى، وانهم وإن علموه من جهة انه قادر غير عاجز وعالم بما فعلوا فإذا ظنوا انه يخفى عليه شئ منها فهو جاهل على الحقيقة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وفي قراءة عبد الله (ولكن زعمتم) قال الفراء: الزعم والظن يكونان بمعنى واحد وقد يختلفان. ثم حكى ما يخاطبهم به فإنه يقال لهم (وذلكم ظنكم) معاشر الكفار (الذي ظننتم بربكم أرادكم) أي أهلككم يقال: ردى فلن يردى إذا هلك قال الأعشى:
أي الطوف خفت علي الردى * وكم من رد أهله لم يرم (1)
وقوله (فأصبحتم من الخاسرين) معناه فظللتم من جملة من خسر في تجارته لأنكم خسرتم الجنة وحصل لكم النار. ثم قال (فان يصبروا فالنار مثوى لهم) قال البلخي: معناه فان يتخيروا المعاصي فالنار مصير لهم، وقال قوم: معناه وإن يصبروا في الدنيا على المعاصي فالنار مثواهم (وإن يستعتبوا) - بضم الياء - قرأ به عمرو ومعناه إن طلب منهم العتبى لم يعتبوا أي لم يرجعوا ولم ينزعوا. وقال قوم: المعنى فان يصبروا أو يجزعوا فالنار مثوى لهم، (وإن يستعتبوا) معناه فان يجزعوا فيستعتبوا (فما هم من المعتبين) لأنه ليس يستعتب إلا من قد جزع مما قد اصابه، فطلب العتبى حينئذ، كما قال (اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم) (2) ومعنى الآية (فان يصبروا) على ما هم فيه فمقامهم في النار (وإن يستعتبوا) أي وإن يطلبوا العتبي وهي الرضا (فما هم من المعتبين) أي ليس بمرضي عنهم، لان السخط من الله تعالى بكفرهم قد لزمهم وزال التكليف عنهم، فليس لهم طريق إلى الاعتاب، والمعتب الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل. وقوله (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) قال الحسن: معناه خلينا بينهم وبين الشياطين الذين أغووهم ودعوهم إلى ما استوجبوا العقاب به، ولم نمنعهم منهم، جزاء على ما استحقوه من الخذلان، فمعنى (قيضنا) خلينا ومكنا. قال الجبائي: (التقييض) إحواج بعض العباد إلى بعض كحاجة الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل، وكحاجة الغني إلى الفقير يستعمله وحاجة الفقير إلى أن يستعمله الغني وغير ذلك من احواج بعضهم إلى بعض. وقال قوم: التقييض المماثلة، والمقايضة المقايسة، قال الشماخ:
تذكرت لما اثقل الدين كاهلي * وغاب يزيد ما أردت تعذرا
رجالا مضوا عني فلست مقايضا * بهم أبدا من سائر الناس معشرا
فالمعنى على هذا إنا نضم إلى كل كافر قرينا له من الجن مثله في الكفر في نار جهنم كما قال (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) (3) ومعنى (فزينوا لهم) يعني فعل أهل الفساد الذين في زمانهم، وفعل من كان قبلهم، وقيل (ما بين أيديهم) من أمر الدنيا (وما خلفهم) من أمر الآخرة - في قول الحسن والسدي - وذلك بدعائهم إلى أنه لا بعث ولا جزاء. وقال الفراء (فزينوا لهم ما بين أيديهم) من أمر الآخرة، فقالوا: لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب (وما خلفهم) من امر الدنيا فزينوا لهم اللذات وجمع الأموال وترك انفاقها في سبيل الله. وقيل: زينوا لهم اعمالهم التي يعملونها، وهي (ما بين أيديهم) وزينوا لهم ما عزموا عليه أن يعملوه وهو (ما خلفهم). وقوله (وحق عليهم القول) يعني وجب عليهم القول بتصييرهم إلى العذاب الذي كان اخبر انه يعذب به من عصاه (في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) أي حق على هؤلاء الكفار وعلى أمم من الجن والإنس انهم متى عصوا الله حق القول بأنهم يعاقبون. ثم قال تعالى (انهم كانوا خاسرين) خسروا الجنة وحصلت لهم النار.
1- ديوانه (دار بيروت) 200 وقد مر في 8 / 499.
2- سورة 52 الطور آية 16.
3- سورة 43 الزخرف آية 36.