الآيات 11-15

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾

اربع آيات في البصري والشامي وخمس في ما عداه. اختلفوا في قوله " وثمود " فلم يعدها البصريون والشاميون وعدها الباقون. اخبر الله تعالى انه بعد خلق الأرض والجبال وتقدير الأقوات فيها " استوى إلى السماء وهي دخان " قال الحسن: معناه استوى امره ولطفه إلى السماء. وقال غيره: معنى الاستواء إلى السماء العمد والقصد إليها، كأنه قال: ثم قصد إليها. واصل الاستواء الاستقامة والقصد للتدبير المستقيم تسوية له. وقوله " ثم استوى على العرش " (1) معناه ثم استوى تدبيره بتقدير القادر عليه. وقيل إن الاستوى بمعنى الاستيلاء، كما قال الشاعر:

ثم استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق (2)

فاما الاستواء عن اعوجاج فمن صفات الأجسام لا يجوز ذلك على الله تعالى. وقوله " ثم استوى إلى السماء " يفيد انه خلق السماء بعد خلق الأرض وخلق الأقوات فيها، ولا ينافي ذلك قوله " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها " إلى قوله (والأرض بعد ذلك دحاها) (3) لان ذلك يفيد أن الأرض كانت مخلوقة غير مدحوة، فلما خلق الله السماء دحا بعد ذلك الأرض فبسطها، وإنما جعل الله السماوات أولا دخانا ثم سبع سماوات طباقا ثم زينها بالمصابيح، لما في ذلك من الدلالة على أن صانعها وخالقها ومدبرها ليس كمثله شئ من الموجودات غني عن كل شئ سواه، وإن كل ما سواه يحتاج إليه من حيث إنه قادر لنفسه لا يعجزه شئ، عالم لنفسه لا يخفى عليه شئ. و (الدخان) جسم لطيف مظلم، فالله تعالى خلق السماوات أولا دخانا ثم نقلها إلى حال السماء من الكثافة والالتئام لما في ذلك من الاعتبار واللطف لخلقه. وقوله (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا اتينا طائعين) قال ابن عباس أتت السماء بما فيها من الشمس والقمر والنجوم وأتت الأرض بما فيها من الأنهار والأشجار والثمار، وليس هناك أمر بالقول على الحقيقة ولا إطاعة، ولا جواب لذلك القول بل أخبر تعالى عن اختراعه السماوات والأرض وانشائه لهما من غير تعذر ولا مشقة ولا كلفة ومن غير ملابسة ولا معاناة بمنزلة ما قيل: للمأمور افعل ففعل من غير تلبث ولا توقف، فعبر عن ذلك بالامر والطاعة وهو كقوله (كن فيكون) (4) وقد بينا الوجه في ذلك ويكون التقدير كأنه قيل: أتينا بمن فينا طائعين أي سبحانه فعل الطبائع في ما أمر به وإنما قلنا ذلك لأنه تعالى لا يأمر المعدوم ولا الجماد، لان ذلك قبيح يتعالى الله عن ذلك ومثل ذلك قول الشاعر:

امتلأ الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملأت بطني (5)

ونظائر ذلك كثيرة بيناها في ما مضى وإنما قال (طائعين) ولم يقل طائعتين، لأنه لما اسند الفعل اليهما وهو مالا يكون إلا من العقلاء اخبر عنهما بالياء والنون، وقال قطرب: لان المعنى أتينا بمن فينا من العقلاء فغلب حكم العقلاء. وقال الشاعر:

فأجهشت للتوباد حين رأيته * وكبر للرحمن حين رآني

فقلت له أين الذين عهدتهم * بجنبيك في حفض وطيب زمان

فقال مضوا واستودعوني بلادهم * ومن ذا الذي يبقى على الحدثان (6)

وقوله (فقضاهن سبع سماوات في يومين) معناه جعلهن سبع سماوات على اتمام خلقهن لان القضاء جعل الشئ على إتمام وإحكام ولذلك قيل: انقضى أي قد تم ومضى، وقضى فلان إذا مات، لان عمره تم ومضى. وقيل: إن السماء موج مكفوف، روي ذلك في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله. وقال الحسن: هي سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام. وقوله (في يومين) قال السدي: خلق الله السماوات وسواها يوم الخميس والجمعة وسمي جمعة لأنه جمع في خلق السماوات والأرض، وإنما خلقها في يومين نظير خلق الأرض في يومين، فان قيل: قوله (خلق الأرض في يومين) وخلق الجبال والأقوات في أربعة أيام وخلق السماوات في يومين يكون ثمانية أيام، وذلك مناف لقوله (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) (7) قلنا: لا تنافي بين ذلك، لأنه خلق السماوات والأرض وخلق الجبال والأشجار والأقوات في أربعة أيام منها اليومان المتقدمان، كما يقول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ثم إلى الكوفة في خمسة عشر يوما أي في تمام هذه العدة، ويكون قوله (فقضاهن سبع سماوات في يومين) تمام ستة أيام. وهو الذي ذكره في قوله في ستة أيام. وزال الاشكال. وقوله (وأوحى في كل سماه أمرها) قال السدي معناه جعل فيها ما اراده من ملك وغيره. وقيل معناه أوحي في كل سماء بما يصلحها " وزينا السماء الدنيا بمصابيح " روي أن الكواكب في السماء الدنيا، وهي الأقرب إلى الأرض دون ما فوقها من السماوات. وقوله (وحفظا) منصوب على المعنى وتقديره جعلناها زينة وحفظا أي وجعلناها حفظا من استراق الشياطين السمع بالكواكب التي جعلت فيها. وقيل: حفظا من أن تسقط على الأرض (ذلك تقدير العزيز العليم) يعني القادر الذي لا يغالب العليم بجميع الأشياء لا يخفى عليه شئ منها. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله (فان أعرضوا) يعني ان عدل الكفار عن الفكر في ما ذكرنا والتدبر لما بينا وأبوا إلا الشرك والجحود (فقل) لهم مخوفا لهم (أنذرتكم صاعقة) أي خوفتكم إياها ان ينزل بكم كما نزل بمن قبلكم ونصب (صاعقة) على أنه مفعول ثان (مثل صاعقة عاد وثمود) التي أرسلها الله عليهم وأهلكهم بها، فقال السدي: الصاعقة أراد بها العذاب، وقال قتادة: معناه وقيعة. وقيل: إن عادا أهلكت بالريح والصاعقة جميعا. وقوله (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم) ف? (إذ) متعلقة بقوله (صاعقة) أي نزلت بهم إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم، منهم من تقدم زمانه ومنهم من تأخر عنه، وقال الفراء: أتت الرسل إياهم ومن كان قبلهم ومن خلفهم أي وجاءتهم أنفسهم رسل من بعد أولئك الرسل فيكون الهاء والميم في خلفهم للرسل، ويكون لهم بجعل ما خلفهم ما معهم. وقال قوم: معناه قبلهم وبعد أن بلغوا وتعبدوا بأمر الرسل الذين تقدموهم، قال البلخي: ويجوز أن يكون المراد أتتهم اخبار الرسل من ههنا وههنا مع ما جاءهم منهم (ألا تعبدوا إلا الله) أي أرسلناهم بأن لا يعبدوا إلا الله وحده لا شريك له وألا يشركوا بعبادته غيره، فقال المشركون عند ذلك (لو شاء ربنا) أن نؤمن ونخلع الأنداد " لا نزل ملائكة " يدعوننا إلى ذلك ولم يبعث بشرا مثلنا، فكأنهم انفوا من الانقياد لبشر مثلهم وجهلوا أن الله يبعث الأنبياء على ما يعلم من مصالح عباده ويعلم من يصلح للقيام بها وقالوا لهم أيضا (إنا) معاشر قومنا (بما أرسلتم به) من إخلاص العبادة والتوحيد (كافرون) جاحدون، ثم فصل تعالى اخبارهم فقال (فاما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق) أي تجبروا وعتوا وتكبروا على الله بغير حق جعله الله لهم بل للكفر المحض والظلم الصراح (وقالوا من أشد منا قوة) لما كان الله تعالى أعطاهم من فضله قوة تقوى بها على أهل زمانهم، فقال الله تعالى (أو لم يروا) (ج 9 م 15 التبيان) ومعناه أو لم يعلموا (ان الله الذي خلقهم) واخترعهم وخلق فيهم هذه القوة (أشد منهم قوة) وأعظم اقتدارا (وكانوا) مع ذلك (بآيات الله) وأدلته (يجحدون) أي ينكرونها، ولا يعترفون بها.


1- سورة 7 الأعراف آية 53 وسورة 10 يونس آية 3 وسورة 13 الرعد آية 2 وسورة 25 الفرقان آية 59 وسورة 32 ألم السجدة آية 4 وسورة 57 الحديد آية 4.

2- مر في 1 / 125 و 2 / 396 و 4 / 452 و 5 / 386.

3- سورة 79 النازعات آية 30.

4- سورة 36 يس آية 82 وغيرها.

5- مر في 1 / 431 و 8 / 85، 369.

6- قد مر في 8 / 369.

7- سورة 7 الأعراف آية 53 وسورة 10 يونس آية 3.