الآيات 21-25

قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا، وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا، أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا، وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا﴾

حكى الله تعالى عن الكفار الذين لا يرجون لقاء ثواب الله، ولا يخافون عقابه أنهم قالوا ما ذكره. والرجاء ترقب الخير الذي يقوى في النفس وقوعه، تقول: رجا يرجو رجاء وارتجى ارتجاء، وترجى ترجيا، ومثل الرجاء الطمع والأمل. والمعنى لا يرجون لقاء جزائنا، وإذا استعملوا الرجاء مع النفي أرادوا به الخوف، كقوله " لا ترجون لله وقارا " (1) وهي لغة تهامة وهذيل. واللقاء المصير إلى الشئ من غير حائل ولهذا صح لقاء الجزاء من الثواب والعقاب، لان العباد يصيرون إليه في الآخرة وعلى هذا يصلح أن يقال: لابد من لقاء الله تعالى. وقوله " لولا انزل علينا الملائكة أو نرى ربنا " معناه هلا أنزل الملائكة لتخبرنا بأن محمد نبي " أو نرى ربنا " فيخبرنا بذلك. قال الجبائي: وذلك يدل على أنهم كانوا مجسمة، فلذلك جوزوا الرؤية على الله التي تقتضي التشبيه. ثم اقسم تعالى فقال " لقد استكبروا " بهذا القول " في أنفسهم " أي طلبوا الكبر والتجبر بغير حق، تقول: استكبر استكبارا " وعتوا " بذلك أي طغوا به " عتوا كبيرا " والعتو الخروج إلى أفحش الظلم. وقوله " يرم يرون الملائكة " يجوز أن يكون المراد به اليوم الذي تقبض فيه أرواحهم، ويعلمون أين مستقرهم. ويجوز أن يكون يوم القيامة " لا بشرى يومئذ للمجرمين " أي لا بشرى لهم في ذلك اليوم. قال الفراء: ليس (اليوم) من صلة (بشرى) ولا منصوبا به، بل أضمرت (الفاء) كقولك: أما اليوم، فلا مال لك. وقال الزجاج: يجوز على تقدير لا بشرى تكون للمجرمين يوم يرون الملائكة، ويكون (يومئذ) مؤكدا ل? (يوم)، ولا يكون منصوبا ب? (لا بشرى) لان ما يتصل ب? (لا) لا يعمل فيما قبلها، لكن لما قيل: " لا بشرى للمجرمين " بين في أي يوم ذلك فكأنه قال يمنعون البشرى يوم يرون الملائكة، وهو يوم القيامة و (المجرمين) معناه الذين أجرموا وارتكبوا المعاصي " ويقولون حجرا محجورا " حراما محرما. وقال قتادة، والضحاك: هو من قول الملائكة يقولون لهم: حراما محرما عليكم البشرى. وقال مجاهد وابن جريج: هو من قول المجرمين، كما كانوا يقولون في الدنيا إذا لقوا من يخافون منه القتل، قالوا " حجرا محجورا " أي حراما محرما دماؤنا. واصل الحجر الضيق، يقال: حجر عليه يحجر حجرا إذا ضيق. والحجر الحرام لضيقه بالنهي عنه، قال المتلمس:

حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها * حجر حرام ألا تلك الدهاريس (2)

وقال آخر:

فهممت ان ألقي إليها محجرا * ولمثلها يلقى إليه المحجر (3)

أي حراما. ومنه حجر القاضي عليه يحجر. وحجر فلان على أهله. ومنه حجر الكعبة، لأنه لا يدخل إليه في الطواف، وإنما يطاف من ورائه، لتضيقه بالنهي عنه وقوله " لذي حجر " (4) أي لذي عقل، لما فيه من التضييق في القبيح، والحجر الأنثى من الخيل، ومنه الحجرة، وحجر الانسان. وقوله " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " قال البلخي: معناه قدم أحكامنا بذلك. وقال مجاهد: معنى " قدمنا " عمدنا قال الراجز:

وقدم الخوارج الضلال * إلى عباد ربهم فقالوا إن دماءكم لنا حلال (5)

وفي الكلام بلاغة حسنة، لان التقدير: كان قصدنا إليه قصد القادم على ما يكرهه، ما لم يكن رآه قبل فيغيره. والهباء غبار كالشعاع، لا يمكن القبض عليه وقال الحسن ومجاهد وعكرمة: هو غبار يدخل الكوة في شعاع الشمس. وقال عكرمة: هو رهج الخيل. وقال ابن عباس وغيره: هو الماء المهراق. ثم قال تعالى " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا " ومعناه: إن الذين يحصلون في الجنة - مثابين منعمين في ذلك اليوم - مستقرهم خير من مستقر الكفار في الدنيا والآخرة. وإنما قال ذلك على وجه المظاهرة، بمعنى أنه لو كان لهم مستقر خير ومنفعة، لكان هذا خيرا منه، " وأحسن مقيلا " معناه أحسن موضع قائلة، وإن لم يكن في الجنة نوم، إلا أنه من تمهيده يصلح للنوم، لأنهم خوطبوا بما يعرفون، كما قال " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " (6) على ما اعتادوه. وقال البلخي: معنى " مستقرا وأحسن مقيلا " انه خير في نفسه، وحسن في نفسه، لا انه أفضل من غيره، كما قال " وهو أهون عليه " (7) أي هو هين. وقال قوم: معنى " خير مستقرا وأحسن " أي انفع من مستقرهم. وقال ابن عباس وإبراهيم وابن جريج: لأنه يفرغ من حسابهم إلى وقت القائلة. وقوله " يوم تشقق السماء بالغمام " أي عن الغمام، وهو كقولهم: رميت بالقوس، وعن القوس بمعنى واحد. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر " تشقق " مشددة ومعناه تتشقق، فادغم احدى التائين في الشين لقرب مخرجيهما. ومن قرأ بالتخفيف أراد أيضا ذلك. ولكنه حذف إحدى التائين، وهي تاء (تفعل) لان الأخرى علامة الاستقبال، لا يجوز حذفها. وقال أبو علي الفارسي: المعنى " تشقق السماء " وعليها الغمام. وفى التفسير: انه يتشقق سماء سماء. وقال الفراء: تتشقق السماء عن الغمام الأبيض. وقرأ الباقون بالتخفيف. وقرأ ابن كثير " وننزل الملائكة " بنونين. وقرأ الباقون بنون واحدة مشددة. والمعني بذلك الاخبار عن هول ذلك اليوم وعظم شدائده، وان الملائكة تنزل للمؤمنين بالاكرام والاعظام، وللكافرين بالاستخفاف والإهانة. ومن قرا بالنونين أراد ان الله المخبر بذلك عن نفسه. ومن قرأ بنون واحدة فعلى ما لم يسم فاعله. والمعنيان واحد. والتشديد أجود لقوله " تنزيلا " والآخر يجوز، كما قال " وتبتل إليه تبتيلا) (8) وقوله (والله أنبتكم من الأرض نباتا) (9) فجاء المصدر على غير الفعل وذلك سائغ جيد.


1- سورة 51 الذاريات آية 13.

2- سورة 71 نوح آية 13.

3- أنظر 4 / 313 تعليقة 1 من هذا الكتاب.

4- تفسير الطبري 19 / 2.

5- سورة 89 الفجر آية 5.

6- تفسير القرطبي 13 / 21 والطبري 19 / 3.

7- سورة 19 مريم آية 62.

8- سورة 30 الروم آية 27.

9- سورة 73 المزمل آية 8.