الآيات 17-20
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا، فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا، وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وأبو جعفر وحفص ويعقوب (ويوم يحشرهم) بالياء. الباقون بالنون. وقرأ ابن عامر (فنقول) بالنون. الباقون بالياء. وقرأ أبو جعفر (ان نتخذ) بضم النون وفتح الخاء. الباقون بفتح النون وكسر الخاء. وقرأ حفص (فما تستطيعون) بالياء. الباقون بالتاء. من قرأ (يحشرهم) بالياء فتقديره: قل يا محمد يوم يحشرهم الله ويحشر الأصنام التي يعبدونها من دون الله. قال قوم: حشر الأصنام افناؤها. وقال آخرون يحشرها كما يحشر سائر الحيوان ليبكت من جعلها آلهة. ومن قرأ بالنون أراد: ان الله المخبر بذلك عن نفسه وابن عامر جعل المعطوف مثل المعطوف عليه في أنه حمله على أنه إخبار من الله. ومن قرأ الأولى بالنون والثانية بالياء عدل من الاخبار عن الله إلى الاخبار عن الغائب. يقول الله تعالى (ويوم يحشرهم) يعني هؤلاء الكفار الجاحدين للبعث والنشور ويحشر (ما يعبدون من دون الله) قال مجاهد: يعني عيسى وعزير. وقال قوم: هو كل ما عبدوه من دون الله ليبكتوا بذلك (فيقول) اي فيقول الله لهم (أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء) يعني الكفار أي يقول الله للذين عبدوهم أأنتم الذين دعوتم الكفار إلى عبادتكم، فأجابوكم (أم هم ضلوا السبيل) من قبل نفوسهم عن طريق الحق وأخطأوا طريق الصواب؟؟ فيجيب المعبودون بما حكاه الله فيقولون: (سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) ندعوهم إلى عبادتنا. ومن ضم النون أراد: لم يكن لنا ان نتخذ أولياء من دونك، وضعف هذه القراءة النحويون. فقالوا: لان (من) هذه تدخل في الاسم دون الخبر، نحو ما علمت من رجل راكبا. ولا تقول: ما علمت رجلا من راكب. وقال الزجاج: لا يجوز ذلك كما لا يجوز في قوله (فما منكم من أحد عنه حاجزين) (1) ما أحد عنه منكم من حاجزين. وقال الفراء يجوز ذلك على ضعف، ووجهه أن يجعل الاسم في (من أولياء)، وإن كانت وقعت موقع الفعل (وقوله (ما كان ينبغي لنا)، (كان) زائدة، والتقدير: ما ينبغي لنا - ذكره أبو عبيدة - وهذا لا يحتاج إليه، لان هذا إخبار عنهم يوم القيامة انهم يقولون: " ما كان ينبغي لنا " في دار الدنيا ان نتخذ أولياء من دونك) (2) وقوله " ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " تمام الحكاية عما يقول المعبودون من دون الله، فإنهم يقولون يا ربنا انك متعت هؤلاء الكفار ومتعت آباءهم في نعيم الدنيا " حتى نسوا الذكر " أي ذكرك " وكانوا قوما بورا " أي هلكى فاسدين. والبور الفاسد، ويقال: بارت السلعة تبور بورا إذا بقيت لا تشترى بقاء الفاسد الذي لا يراد. والبائر الباقي على هذه الصفة. والبور مصدر كالزور، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. وقيل هو جمع (بائر) قال ابن الزبعري:
يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذا أنابور (3)
ونعوذ بالله من بوار الاثم. وقوله " فقد كذبوكم بما تقولون " قيل في معناه قولان:
أحدهما: كذبكم الملائكة والرسل، في قول مجاهد.
الثاني: قال ابن زيد: أيها المؤمنون كذبكم المشركون بما تقولون: عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وغيره من أنبياء الله. قال الفراء: من قرأ بالياء معناه كذبوكم بقولهم. وقوله " فما تستطيعون صرفا ولا نصرا " قال مجاهد: يعني بذلك، فما يستطيع هؤلاء الكفار صرف العذاب عن أنفسهم، ولا نصر أنفسهم من عذاب الله تعالى. وقيل: معناه فما يستطيعون لك يا محمد صرفا عن الحق، ولا نصر أنفسهم من البلاء الذي هم فيه، من التكذيب لك. وليس: ما يستطيعون نصرا من بعض لبعض. ومن قرأ - بالتاء - خاطبهم بذلك بتقدير قل لهم. ثم قال تعالى " ومن يظلم منكم " نفسه بارتكاب المعاصي وجحد آيات الله " صرفه " في مقابلة ذلك جزاء عليه " عذابا كبيرا " أي عظيما. ثم خاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وآله فقال " وما أرسلنا قبلك " يا محمد " من المرسلين إلا انهم ليأكلون الطعام " مثلك " ويمشون في الأسواق " طلبا للمعايش، كما تطلبها (؟؟؟)، وهو جواب لقولهم " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق " (4) وكسرت (إن) في قول " الا انهم " لأنه موضع ابتداء، كأنه قال: إلا هم يأكلون الطعام، كما تقول: ما قدم علينا أمير الا إنه مكرم لي، ولا يجوز أن تكون مكسورة لاحل اللام، لان دخولها وخروجها واحد في هذا الموضع. وقال قوم (من) محذوفة والتقدير إلا من أنهم ليأكلون الطعام نحو " وما منا إلا له مقام معلوم " (5) اي الا من له مقام معلوم، ذكره الفراء. وقال الزجاج: هذا لا يجوز، لان قوله " انهم ليأكلوا الطعام " صلة (من) ولا يجوز حذف الموصول وبقاء الصلة، ومثل الآية قول الشاعر:
ما أعطياني ولا سألتهما * إلا وأني لحاجز كرمي (6)
وقوله " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة " قال الحسن: معناه يقول هذا الأعمى: لو شاء لجعلني بصيرا مثل فلان، ويقول هذا الفقير: لو شاء لجعلني غنيا مثل فلان ويقول هذا السقيم: لو شاء لأصحني مثل فلان. وقوله " وكان ربك بصيرا " أي بصيرا بمن يصبر ممن يجزع، في قول ابن جريج. وقال الفراء: كان الشريف إذا أراد أن يسلم، وقد سبق المشروف إلى الاسلام، فيقول: أسلم بعد هذا ؟! فكان ذلك فتنة. وقيل " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة " للعداوات التي كانت بينهم في الدين. والفتنة شدة في التعبد تظهر ما في نفس العبد من خير وشر، وهي الاختبار. وأصله اخلاص الشئ باحراق ما فيه من الفساد من قولهم: فتنت الذهب بالنار إذا أخلصته من الغش باحراقه، ومنه قوله " يومهم على النار " يفتنون " (7) أي يحرقون إحراق ما يطلب اخلاصه من الفساد. وقوله " أتصبرون وكان ربك بصيرا " معناه اصبروا فقد عرفتم ما وعد الصابرون به من الثواب، والله بصير بمن يصبر ومن يجزع.
1- سورة 3 آل عمران آية 194.
2- سورة 69 الحاقة آية 47.
3- ما بين القوسين كان في المطبوعة مؤخرا عن موضعه.
4- انظر 6 / 249 من هذا الكتاب.
5- سورة 25 الفرقان آية 7.
6- سورة 37 الصافات آية 164.
7- البيت في مجمع البيان 4 / 163.