الآية 55
قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم (وليبدلنهم) بالتخفيف. الباقون بالتشديد. وقرأ أبو بكر عن عاصم (كما استخلف) بضم التاء على ما لم يسم فاعله. الباقون بفتحها. قال أبو علي: الوجه فتح التاء، لان اسم الله قد تقدم ذكره، والضمير في (يستخلفنهم) يعود إلى الاسم، فكذلك قوله (كما استخلف) لان المعنى ليستخلفنهم استخلافا كاستخلافه الذين من قبلهم. ومن ضم التاء ذهب إلى أن المراد به مثل المراد بالفتح. في هذه الآية وعد من الله تعالى للذين آمنوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وعملوا الصالحات، بأن يستخلفهم في الأرض، ومعناه يورثهم أرض المشركين من العرب والعجم (كما استخلف الذين من قبلهم) يعني بني إسرائيل بأرض الشام بعد اهلاك الجبابرة بأن أورثهم ديارهم وجعلهم سكانها. وقال الجبائي: (استخلف الذين من قبلهم) يعني في زمن داود وسليمان. وقال النقاش: يريد بالأرض أرض مكة، لان المهاجرين سألوا ذلك، والأول قول المقداد بن الأسود، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (لا يبقى على الأرض بيت مدر، ولا وبر إلا ويدخله الاسلام بعز عزيز أو ذل ذليل). وفي ذلك دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله لأنه أخبر عن غيب وقع مخبره على ما أخبر، وذلك لا يعلمه إلا الله تعالى (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) يعني يمكنهم من إظهار الاسلام الذي ارتضاه دينا لهم (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) أي نصرهم بعد أن كانوا خائفين بمكة وقت غلبة المشركين آمنين بقوة الاسلام وانبساطه. ثم اخبر عن المؤمنين الذين وصفهم بأنهم يعبدون الله تعالى وحده لا يشركون بعبادته سواه من الأصنام والأوثان وغيرهما. ويجوز أن يكون موضعه الحال. ويجوز أن يكون مستأنفا. ثم قال (ومن كفر بعد ذلك) يعني بعد الذي قصصنا عليك ووعدناهم به (فأولئك هم الفاسقون) وإنما ذكر الفسق بعد الكفر مع أن الكفر أعظم من الفسق، لاحد أمرين:
أحدهما: انه أراد الخارجين في كفرهم إلى أفحشه، لان الفسق في كل شئ هو الخروج إلى اكبره.
الثاني: أراد من كفر تلك النعمة بالفساد بعدها، فسق وليس يعني الكفر بالله، ذكره أبو العالية. والتبديل - تغيير حال إلى حال أخرى، تقول: بدل صورته تبديلا، وتبدل تبدلا، والابدال رفع الشئ بأن يجعل غيره مكانه، قال أبو النجم: عزل الأمير بالأمير المبدل (1) والتبديل رفع الحال إلى حال أخرى. والابدال رفع النفس إلى نفس أخرى. والأصل واحد، وهو البدل. واستدل الجبائي، ومن تابعه على إمامة الخلفاء الأربعة بأن قال: الاستخلاف المذكور في الآية لم يكن إلا لهؤلاء، لان التمكين المذكور في الآية إنما حصل في أيام أبي بكر وعمر، لان الفتوح كانت في أيامهم، فأبو بكر فتح بلاد العرب وطرفا من بلاد العجم، وعمر فتح مداين كسرى إلى حد خراسان وسجستان وغيرهما، فإذا كان التمكين والاستخلاف ههنا ليس هو إلا لهؤلاء الأئمة الأربعة. وأصحابهم علمنا أنهم محقون. والكلام على ذلك من وجوه:
أحدها: ان الاستخلاف - ههنا - ليس هو الامارة والخلافة. بل المعنى هو ابقاؤهم في أثر من مضى من القرون، وجعلهم عوضا منهم وخلفا، كما قال " هو الذي جعلكم خلائف في الأرض " (2) وقال " عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض " (3) وقال " وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء " (4) وكقوله " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة " (5) أي جعل كل واحد منهما خلف صاحبه، وإذا ثبت ذلك، فالاستخلاف والتمكين الذي ذكره الله في الآية، كانا في أيام النبي صلى الله عليه وآله حين قمع الله أعداءه وأعلا كلمته ونشر ولايته، واظهر دعوته، وأكمل دينه، ونعوذ بالله أن نقول: لم يمكن الله دينه لنبيه في حياته حتى تلا في ذلك متلاف بعده، وليس ذلك التمكين كثرة الفتوح والغلبة على البلدان، لان ذلك يوجب أن دين الله لم يتمكن بعد إلى يومنا هذا لعلمنا ببقاء ممالك للكفر كثيرة لم يفتحها المسلمون، ويلزم على ذلك إمامة معاوية وبني أمية، لأنهم تمكنوا أكثر من تمكن أبي بكر وعمر، وفتحوا بلادا لم يفتحوها. ولو سلمنا أن المراد بالاستخلاف الإمالة للزم أن يكون منصوصا عليهم، وذلك ليس بمذهب أكثر مخالفينا، وإن استدلوا بذلك على صحة إمامتهم احتاجوا أن يدلوا على ثبوت امامتهم بغير الآية، وانهم خلفاء الرسول حتى تتناولهم الآية. فان قالوا: المفسرون ذكروا ذلك. قلنا: لم يذكر جميع المفسرين ذلك، فان مجاهدا قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وآله. وعن ابن عباس وغيره: قريب من ذلك. وقال أهل البيت (ع) إن المراد بذلك المهدي (ع) لأنه يظهر بعد الخوف، ويتمكن بعد إن كان مغلوبا، فليس في ذلك اجماع المفسرين. وهذا أول ما فيه. قد استوفينا ما يتعلق بالآية في كتاب الإمامة، فلا نطول بذكره - ههنا - وقد تكلمنا على نظير هذه الآية، وان ذلك ليس بطعن على واحد منهم، وإنما المراد الممانعة من أن يكون فيها دلالة على الإمامة، وكيف يكون ذلك. ولو صح ما قالوه لما احتيج إلى اختياره، ولكان منصوصا عليه، وليس ذلك مذهبا لأكثر العلماء، فصح ما قلناه.
1- سورة 2 البقرة آية 226.
2- قد مر تخريجه في 7 / 79.
3- سورة 35 فاطر آية 39.
4- سورة 7 الأعراف آية 128.
5- سورة 6 الانعام آية 133.