الآيات 46-50

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ، وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾

اقسم الله تعالى في هذه الآية انه انزل (آيات مبينات) أي دلالات واضحات تظهر بها المعاني، وتتميز، مما خالفها حتى تعلم مفصلة. ومن كسر الياء، جعلها من المبينة المظهرة مجازا، من حيث يتبين بها، فكأنها المبينة. وقوله (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) معناه والله يلطف لمن يشاء بما يعلم أنه يهتدي عنده (إلى صراط مستقيم) واضح: من توحيده وعد له وصدق أنبيائه. والهداية الدلالة التي يهتدي بها صاحبها إلى الرشد، وقد تطلق على ما يصح أن يهتدى بها، كما قال تعالى (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (1) لان المراد في الآية اللطف على ما قلناه. وقال الجبائي: قوله (يهدي من يشاء) يعني المكلفين دون من ليس بمكلف، ويجوز أن يكون المراد هدايتهم في الآخرة إلى طريق الجنة، والصراط المستقيم الايمان لأنه يؤدي إلى الجنة. وقوله (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) قيل إنها نزلت في صفة المنافقين، لأنهم يقولون بألسنتهم: آمنا بالله وصدقنا رسوله، فإذا انصرفوا إلى أصحابهم قالوا خلاف ذلك، فأخبر الله تعالى أن هؤلاء ليسوا بمؤمنين على الحقيقة. ثم اخبر عن حال هؤلاء فقال: " وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم " في شئ يختلفون فيه " إذا فريق منهم " يعني المنافقين " معرضون " عن ذلك. ولا يختارونه، لأنه يكون الحق عليهم. ثم قال " وإن يكن لهم الحق " وتتوجه لهم الحكومة " يأتوا إليه " يعني إلى النبي صلى الله عليه وآله منقادين " مذعنين " والاذعان هو الانقياد من غير اكراه، فهؤلاء المنافقون إذا دعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ليحكم بينهم في شئ اختلفوا فيه، امتنعوا ظلما، لأنفسهم، وكفروا بنبيهم، ففضحهم الله بما أظهر من جهلهم ونفاقهم. و قيل إنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود حكومة، فدعاه اليهودي إلى رسول الله، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف. وقيل إنها نزلت في علي (ع) ورجل من بني أمية دعاه علي إلى رسول الله، ودعاه الأموي إلى اليهود، وكان بينهما منازعة في ماء وأرض. وحكى البلخي انه كانت بين علي (ع) وعثمان منازعة في أرض اشتراها من علي، فخرجت فيها أحجار، وأراد ردها بالعيب، فلم يأخذها، فقال بيني وبينك رسول الله، فقال الحكم ابن أبي العاص ان حاكمته إلى ابن عمه حكم له، فلا تحاكمه إليه، فأنزل الله الآية. ثم قال تعالى منكرا عليهم " أفي قلوبهم مرض " أي شك في قلوبهم، وسمي الشك مرضا، لأنه آفة تصد القلب عن ادراك الحق، كالآفة في البصر تصد عن ادراك الشخص، وإنما جاء على لفظ الاستفهام، والمراد به الانكار، لأنه أشد في الذم والتوبيخ أي ان هذا كفر، قد ظهر حتى لا يحتاج فيه إلى البينة، كما جاز في نقيضه على طريق الاستفهام، لأنه أشد مبالغة في المدح، كما قال جرير:

ألستم خير من ركب المطايا * واندى العالمين بطون راح (2)

فقال الله تعالى " أفي قلوبهم مرض " أي شك في النبي " أم ارتابوا " بقوله وبحكمه (أم يخافون أن يحيف الله ورسوله عليهم) أي يجور عليهم، والحيف الجور بنقض الحق، ويحيف عليهم: يظلمهم، لأنه لا وجه للامتناع عن المجئ إلا أحد هذه الثلاثة. ثم اخبر تعالى فقال: ليس لشئ من ذلك، بل لأنهم الظالمون نفوسهم وغيرهم، والمانعون لهم حقوقهم، وإنما افرد قوله (ليحكم بينهم) بعد قوله (إلى الله ورسوله)، لأنه حكم واحد يوقعه النبي صلى الله عليه وآله بأمر الله.


1- سورة 21 الأنبياء آية 30.

2- سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 17.