الآيات 36-38

قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾

ثلاث آيات في الكوفي والبصري تمام الآية الأولى " الآصال " وفي الباقي آيتان آخرهما الابصار " و " حساب ". قرأ ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص " يسبح " بفتح الباء. الباقون بكسرها، فمن فتح الباء، وقرأ على ما لم يسم فاعله احتلمت قراءته في رفع (رجال) وجهين:

أحدهما: أن يكون الكلام قد تم عند قوله " والآصال " ثم قال " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " فالتجارة الجلب، والبيع ما يبيع الانسان على يده.

والوجه الثاني: أن يرفع (رجال) باضمار فعل يفسره الأول، فيكون الكلام تاما عند قوله " والآصال " يم يبتدئ " رجال " بتقدير يسبحه رجال. وقال أبو علي: يكون أقام الجار والمجرور مقام الفاعل، ثم فسر من يسبحه، فقال " رجال " أي يسبحه رجال، ومنه قول الشاعر: ليبك يزيد ضارع لخصومة (1) كأنه قال ليبك يزيد. قيل من يبكيه؟فقال: يبكيه ضارع. وقال المبرد: يجوز أن يكون يسبح نعتا للبيوت، وتقديره في بيوت اذن الله برفها وذكر اسمه ويسبح له فيها رجال لا تلهيهم تجارة. ومن قرأ بكسر الباء - ورفع رجالا بفعلهم، فعلى هذه القراءة لا يجوز الوقف إلا على " رجال " وعلى الأول على قوله " والآصال ". والآصال جمع أصيل. وقرأ أبو محلم " الاصال " بكسر الألف جعله مصدرا. وقوله " في بيوت اذن الله " قيل في العامل في (في) قولان:

أحدهما: (المصابيح) في بيوت، والعامل استقرار المصابيح، وهو قول ابن زيد.

الثاني: توقد في بيوت، وهذه البيوت هي المساجد - في قول ابن عباس والحسن ومجاهد - وقال عكرمة: هي سائر البيوت وقال الزجاج: يجوز أن تكون (في) متصلة وبيسبح ويكون فيها كقولك في الدار قام زيد فيها. وقوله " اذن الله ان ترفع " قال مجاهد: معناه أذن الله أن تبنى، وترفع بالبناء، كما قال " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " (2) وقال الحسن: معناه أن تعظم، لأنها مواضع الصلوات. وقوله " ويذكر فيها اسمه " أي يذكر الله في هذه البيوت. وقيل تنزه من النجاسات والمعاصي. وقوله " يسبح له فيها بالغدو والآصال " قال ابن عباس: معناه يصلي له فيها بالغداة والعشي، وهو قول الحسن والضحاك. وقال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. وقوله " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " أي لا تشغلهم ولا تصرفهم التجارة والبيع عن ذكر الله وتعظيمه. وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) انه تعالى مدح قوما إذا دخل وقت الصلاة تركوا تجارتهم وبيعهم، واشتغلوا بالصلاة. وقوله " واقام الصلاة وايتاء الزكاة " أي لا تصرفهم تجارتهم عن ذكر الله، وعن إقامة الصلاة، وحذف التاء لان الإضافة عوض عنها، لأنه لا يجوز أن تقول: أقمته إقاما، وإنما يجوز إقامة، والهاء عوض عن محذوف، لان أصله أقوام، فلما اضافه قامت الإضافة مقام الهاء " وايتاء الزكاة " أي ولا يصرفهم ذلك عن اعطاء الزكاة التي افترضها الله عليهم. وقال ابن عباس: الزكاة الطاعة لله وقال الحسن: هي الزكاة الواجبة في المال قال الشاعر (في حذف الهاء والعوض عنها بالإضافة):

إن الخليط أجد والبين فانجردوا * واخلفوك عدى الامر الذي وعدوا (3)

يريد عدة الامر فحذف الهاء لما أضاف. وقوله تعالى " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار " أي يخافون عذاب يوم أو أهوال يوم تتقلب فيه القلوب من عظم أهواله، والابصار من شدة ما يعاينوه. وقيل تتقلب فيه القلوب ببلوغها الحناجر، وتقلب الابصار بالعمى بعد النظر وقال البلخي: معناه إن القلوب تنتقل من الشك الذي كانت عليه، إلى اليقين والايمان. وإن الابصار تتقلب عما كانت عليه، لأنها تشاهد من أهوال ذلك اليوم ما لم تعرفه، ومثله قوله " لقد كنت في غفلة من هذا " (4) الآية. وقال الجبائي: تتقلب القلوب والابصار عن هيئاتها بأنواع العقاب كتقلبها على الجمر. وقوله " ليجزيهم الله أحسن ما عملوا " أي يفعلون ذلك طلبا لمجازات الله إياهم بأحسن ما عملوا من ثواب الجنة، ويزيدهم على ذلك من فضله وكرمه. ثم اخبر تعالى انه " يرزق " على العمل بطاعته تفضلا منه تعالى " من يشاء بغير حساب " والثواب لا يكون إلا بحساب والتفضل يكون بغير حساب.


1- سورة 9 التوبة آية 61.

2- انظر 4 / 310 تعليقة 2 و 6 / 329.

3- سورة 2 البقرة آية 127.

4- تفسير الطبري 18 / 102 واللسان (وعد).