الآيات 31-35
قوله تعالى: ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ، وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ، الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾
القراءة:
قرأ أبو عمرو، والأخفش والداجوني عن هشام وقتيبة (على كل قلب متكبر) منون. الباقون على الإضافة. من نون جعله نعتا للقلب، لان القلب إذا تكبر تكبر صاحبه، كما قال (فظلت أعناقهم لها خاضعين) (1) لان الأعناق إذا خضعت خضع أربابها، وتكبر القلب قسوته وإذا قسا القلب كان معه ترك الطاعة. ومن أضاف قال: لان في قراءة ابن مسعود على (قلب كل متكبر جبار) قال الفراء: وسمعت أحدهم يقول: ان فلانا مرجل شعره يوم كل جمعة يقوم. والجبار: هو الذي يقتل على الغضب، ويقال: اجبره فهو جبار مثل أدرك فهو دراك. قال الفراء: ولا ثالث لهما، قال ابن خلويه: وجدت لهما ثالثا اسأر فهو سئار. لما حكى الله تعالى عن مؤمن آل فرعون انه حذر قومه بالعذاب مثل عذاب يوم الأحزاب، فسر ذلك فقال (مثل دأب قوم نوح) يعني كعادته مع قوم نوح. والدأب العادة يقال: دأب يدأب دأبا فهو دائب في عمله إذا استمر فيه. والعادة تكرر الشئ مرة بعد مرة. وإنما فعل بهم ذلك حين كفروا به، فأغرقهم الله وكقوم هود وهم عاد. وكقوم صالح: وهم ثمود والذين من بعدهم من الأنبياء وأممهم الذين كذبوهم، فأهلكهم الله بأن استأصلهم جزاء على كفرهم. ثم اخبر انه تعالى لا يريد ظلما للعباد، ولا يؤثره لهم. وذلك دال على فساد قول المجبرة الذين يقولون إن كل ظلم في العالم بإرادة الله. ثم حكى أيضا ما قال لهم المؤمن المقدم ذكره، فإنه قال (يا قوم اني أخاف عليكم) عقاب " يوم التناد " وقيل: هو اليوم الذي ينادي بعض الظالمين بعضا بالويل والثبور، لما يرى من سوء عقاب الكفر والمعصية. وقيل: انه اليوم الذي ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار " أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " (2) وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة " أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله " (3) في قول الحسن وقتادة وابن زيد، وقيل: " يوم التناد " هو اليوم الذي يدعى فيه " كل أناس بامامهم " (4) ومن أثبت الياء في (التنادي) فلأنها الأصل، ومن حذفها فلاجتزائه بالكسرة الدالة عليها، ولأنها آخر الآية، فهي فصل شبهت بالقوافي. وقرئ " يوم التناد " بالتشديد من قولهم ند البعير إذا هرب (روي ذلك عن ابن عباس -. وقوله " يوم تولون مدبرين " قال الحسن وقتادة: معناه منصرفين إلى النار وقال مجاهد: مارين غير معوجين ولا معجزين. وقيل: يولون مدبرين والمقامع تردهم إلى ما يكرهونه من العقاب. وقوله " مالكم من الله من عاصم " أي مانع من عذاب ينزل بكم، واصله المنع، وشبه بذلك من فعل به ذلك اللطف الذي يمتنع عنده، يقال عصمه فهو عاصم وذاك معصوم إذا فعل به ذلك اللطف. ومنه قوله (لا عاصم اليوم من امر الله إلا من رحم) (5) أي لا مانع. ثم قال (ومن يضلل الله فما له من هاد) أي من يحكم الله بضلاله فليس له من يحكم بهدايته على الحقيقة. ويحتمل أن يكون المراد ومن يضله الله عن طريق الجنة فما له من يهديه إليها. ثم قال تعالى حاكيا ما قال لهم موسى فإنه قال لهم: (ولقد جاءكم يوسف من قبل) قيل: هو يوسف ابن يعقوب كان قبل موسى جاءهم (بالبينات) يعني الحجج الواضحات (فما زلتم في شك) من موته حتى إذا هلك ومات (قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا) آخر. ثم قال (كذلك يضل الله) أي مثل ما حكم الله بضلال أولئك يحكم بضلال (كل مسرف) على نفسه بارتكاب معاصيه (مرتاب) أي شاك في أدلة الله، ثم بينهم فقال (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان اتاهم) أي يسعون بغير سلطان أي بغير حجة آتاهم الله، وموضع الذين نصب لأنه بدل من (من) ويجوز أن يكون رفعا بتقدير (هم) ثم قال (كبر مقتا) أي كبر ذلك الجدال منهم مقتا (عند الله) أي عداوة من الله. ونصبه على التمييز (وعند الذين آمنوا) بالله مثل ذلك. ثم قال (كذلك) أي مثل ما طبع على قلوب أولئك بان ختم عليها علامة لكفرهم يفعل مثله (ويطبع على كل قلب متكبر جبار) من نون (قلب) جعل (متكبر جبار) من صفة القلب ومن اضافه جعل (القلب) للمتكبر الجبار. قال أبو علي: من أضاف لا يخلو ان يترك الكلام على ظاهره أو يقدر فيه حذفا، فان تركه على ظاهره كان تقديره: يطبع الله على كل قلب متكبر أي على جملة القلب من المتكبر، وليس ذلك المراد وإنما المراد يطبع على قلب كل متكبر، والمعنى انه يطبع على القلوب إذا كانت قلبا قلبا من كل متكبر بمعنى انه يختم عليها.
1- سورة 26 الشعراء آية 4.
2- سورة 7 الأعراف آية 43.
3- سورة 7 الأعراف آية 49.
4- سورة 17 الاسرى آية 71.
5- سورة 11 هود آية 43.