الآيات 26-30
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾
القراءة:
قرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب " أوان " بألف قبل الواو. الباقون " وأن " بغير الف. وقرأ نافع ويعقوب وأبو جعفر وأبو عمرو وحفص عن عاصم " يظهر " بضم الياء " الفساد " نصبا. الباقون " يظهر " بفتح الياء " الفساد " رفعا. من نصب (الفساد) أشركه مع التبديل، وتقديره إني أخاف ان يبدل دينكم وأخاف ان يظهر الفساد، ومن رفع لم يشركه، وقال تقديره إني أخاف ان يبدل دينكم، فإذا بدل ظهر في الأرض الفساد. وكلتا القراءتين حسنة فأما (أو) فقد تستعمل بمعنى الواو، كما قلناه في " وأرسلناه إلى مئة الف أو يزيدون " (1) أي ويزيدون أو بل يزيدون. ولا تكون الواو بمعنى (أو) في قول أبي عبيدة. وقال ابن خالويه إذا كانت (أو) إباحة كانت الواو بمعناها، لان قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين بمنزلة الإباحة، وكذلك قوله " ولا تطع منهم آثما أو كفورا " (2) لان معناه ولا كفورا. وقال أبو علي: من قرأ (وأن) فالمعنى إني أخاف هذا الضرب منه كما تقول كل خبزا أو تمرا أي هذا الضرب. ومن قرأ (وأن) المعنى إني أخاف هذين الامرين وعلى الأول يجوز أن يكون الأمران يخافا، ويجوز أن يكون أحدهما، وعلى الثاني هما معا يخافان، ومن ضم الياء في قوله " ويظهر " فلانه أشبه بما قبله، لان قبله يبدل فأسند الفعل إلى موسي وهم كانوا في ذكره، ومن فتح الياء أراد انه إذا بدل الدين ظهر الفساد بالتبديل أو أراد يظهر الفساد بمكانه. وقال قوم: أراد ب? (أو) الشك لان فرعون قال إني أخاف ان يبدل موسى عليكم دينكم، فإن لم يفعله فيوقع الفساد بينكم، ولم يكن قاطعا على أحدهما به. وروي رواية شاذة عن أبي عمرو: انه قرأ " وقال رجل " باسكان الجيم. الباقون بضمها وذلك لغة قال الشاعر:
رجلان من ضبة اخبرانا * إنا رأينا رجلا عريانا أراد رجلين
فأسكن وهو مثل قولهم: كرم فلان بمعنى كرم. حكى الله تعالى عن فرعون أنه قال لقومه " ذروني " ومعناه اتركوني اقتل موسى، وذلك يدل على أن في خاصة فرعون كان قوم يمنعونه من قتل موسى، ومن معه ويخوفونه ان يدعو ربه فيهلك، فلذلك قال ذروني اقتله وليدع ربه، كما تقولون. وقال قوم: ذلك حين قالوا لو هو ساحر فان قتلته قويت الشبهة بمكانه بل " ارجه واخاه وابعث في المدائن حاشرين " (3) " وليدع ربه " في دفع القتل عنه، فإنه لا يخشى من دعائه شئ، وهذا عنف من فرعون وتمرد وجرأة على الله وإيهام لقومه بأن ما يدعو به موسى لا حقيقة له. ثم قال فرعون " إني أخاف ان يبدل " يعني موسى " دينكم " وهو ما تعتقدونه من إلهيتي " أو ان يظهر في الأرض الفساد " بأن يتبعه قوم نحتاج ان نقاتله فيخرب في ما بين ذلك البلاد، ويظهر الفساد. وقال قتادة: الفساد عند فرعون ان يعمل بطاعة الله. فمن قرأ " أوان " فإنه جعل المخوف أحد الامرين وإن جعل (أو) بمعنى الواو جعل الامرين مخوفين معا، ومن قرأ بالواو جعل المخوف الامرين معا: تبديل الدين وظهور الفساد. والتبديل رفع الشئ إلى غيره في ما يقع موقعه إلا أنه بالعرف لا يستعمل إلا في رفع الجيد بالردي، والفساد انتقاض الامر بما ينافي العقل أو الشرع أو الطبع، ونقيضه الصلاح. والاظهار جعل الشئ بحيث يقع عليه الادراك. ثم حكى تعالى ما قال موسى عند ذلك فإنه قال " إني عذبت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب " والعياذ هو الاعتصام بالشئ من عارض الشر، عذت بالله من شر الشيطان واعتصمت منه بمعنى واحد. ومن أظهر ولم يدغم. قال: لان مخرج الذال غير مخرج التاء. ومن ادغم فلقرب مخرجهما، والمعنى اني اعتصمت بربي وربكم الذي خلقني وخلقكم من كل متكبر على الله متجبر عن الانقياد له لا يصدق بالثواب والعقاب فلا يخاف. وقوله " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه " أتقتلون رجلا ان يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات " يعني الحجج الواضحة " من ربكم " قال السدي كان القائل ابن عم فرعون، فعلى هذا يكون قوله " ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " (4) مخصصا، وقال غيره كان المؤمن إسرائيليا يكتم إيمانه عن آل فرعون، فعلى هذا يكون الوقف عند قوله (وقال رجل مؤمن) ويكون قوله (من آل فرعون) متعلقا بقوله (يكتم) أي يكتم إيمانه من آل فرعون. والأول أظهر في أقوال المفسرين. وقال الحسن: كان المؤمن قبطيا. وقوله (وإن يك كاذبا فعليه كذبه) معناه إن المؤمن قال لفرعون إن يك موسى كاذبا في ما يدعوكم إليه فوبال ذلك عليه وان يك صادقا في ما يدعيه يصيبكم بعض الذي يعدكم، قيل: انه كان يتوعدهم بأمور مختلفة، قال ذلك مظاهرة في الحجاج والمعنى انه يلقي بعضه. والمراد يصيبكم بعضه في الدنيا. وقيل: هو من لطيف الكلام، كما قال الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته * وقد يكون مع المستعجل الزلل (5)
ثم قال (ان الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) أي لا يحكم بهداية من كان مسرفا على نفسه ومتجاوز الحد في معصية الله كذابا على الله. ويحتمل أن يكون المراد ان الله لا يهدي إلى طريق الثواب والجنة من هو مسرف كذاب ويجوز أن يكون ذلك حكاية عما قال المؤمن من آل فرعون. ويجوز أن يكون ذلك ابتداء خبر من الله تعالى بذلك، ثم قال يعني مؤمن آل فرعون (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله ان جاءنا) أي لكم الملك والسلطان على أهل الأرض وذلك لا يمنع من بأس الله (قال فرعون ما أريكم الا ما أرى وما أهديكم الا سبيل الرشاد) في ما أدعوكم من الهيتي وتكذيب موسى. ثم حكى ما قال المؤمن فقال (وقال الذي آمن يا قوم اني أخاف عليكم) عذابا (مثل) عذاب " يوم الأحزاب " قال قوم: القائل لذلك موسى نفسه، لان مؤمن آل فرعون كان يكتم ايمانه، وهذا ضعيف لان قوله هذا كقوله (أتقتلون رجلا ان يقول ربي الله) (6) وكما اظهر هذا جاز ان يظهر ذلك.
1- سورة 37 الصافات آية 147.
2- سورة 76 الدهر (الانسان) آية 24.
3- سورة 26 الشعراء آية 36.
4- آية 46 من هذه السورة.
5- قائله عمر القطامي تفسير القرطبي 15 / 307.
6- آية 28 من هذه السورة.