الآيات 11-17
قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ، ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ، فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ، يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾
سبع آيات عند الكل إلا أن الشامي قد خالفهم في التفصيل، وهي عندهم سبع عدوا (يوم التلاق) ولم يعده الشامي، وعد الشامي (يومهم بارزون) ولم يعده الباقون. حكى الله تعالى عن الكفار الذين تقدم وصفهم انهم يقولون بعد حصولهم في النار والعذاب يا (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) قال السدي الإماتة الأولى في الدنيا والثانية في البرزخ إذا أحيي للمسألة قبل البعث يوم القيامة، وهو اختيار الجبائي والبلخي. وقال قتادة: الإماتة الأولى حال كونهم نطفا فأحياهم الله، ثم يميتهم، ثم يحيهم يوم القيامة. وفي الناس من استدل بهذه الآية على صحة الرجعة، بأن قال: الإماتة الأولى في دار الدنيا والاحياء الأول حين إحيائهم للرجعة، والإماتة الثانية بعدها. والاحياء الثاني يوم القيامة، فكأنهم اعتمدوا قول السدي، ان حال كونهم نطفا لا يقال له إماتة، لان هذا القول يفيد إماتة عن حياة والاحياء يفيد عن إماتة منافية للحياة وإن سموا في حال كونهم نطفا مواتا. وهذا ليس بقوي لأنه لو سلم ذلك لكان لابد من أربع احياءات وثلاث إماتات أول إحياء حين أحياهم بعد كونهم نطفا، لان ذلك يسمى احياء بلا شك. ثم إماتة بعد ذلك في حال الدنيا. ثم أحياء في القبر ثم إماتة بعده ثم إحياء في الرجعة ثم إماتة بعدها. ثم إحياء يوم القيامة لكن يمكن أن يقال: إن إخبار الله عن الاحياء مرتين والإماتة مرتين لا يمنع من احياء آخر وإماتة أخرى، وليس في الآية انه أحياهم مرتين وأماتهم مرتين بلا زيادة، فالآية محتملة لما قالوه ومحتملة لما قاله السدي، وليس للقطع على أحدهما سبيل. قال ابن عباس وعبد الله والضحاك: هو كقوله (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم ثم إليه ترجعون) (1). وقوله (فاعترفنا بذنوبنا) إخبار منه تعالى أن الكفار يعترفون بذنوبهم التي اقترفوها في الدنيا لا يمكنهم جحدها، وإنما تمنوا الخروج مما هم فيه من العذاب، فقالوا (فهل إلى خروج من سبيل) والمعنى فهل إلى خروج لنا من سبيل فنسلكه في طاعتك واتباع مرضاتك. ولو علم الله تعالى انهم يفلحون لردهم إلى حال التكليف، لأنه لا يمنع احسانا بفعل ما ليس باحسان. ولا يؤتى أحد من عقابه إلا من قبل نفسه، وكذلك قال في موضع آخر (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) (2) تنبيها أنهم لو صدقوا في ذلك لأجابهم إلى ما تمنوه، وإنما يقولون هذا القول على سبيل التمني بكل ما يجدون إليه سبيلا في التلطف للخروج عن تلك الحال، وإنه لا يمكن أحدا أن يتجلد على عذاب الله، كما يمكن ان يتجلد على عذاب الدنيا. ووجه اتصال قوله (فاعترفنا بذنوبنا) بما قبله هو الاقرار بالذنب بعد الاقرار بصفة الرب، كأنه قيل: فاعترفنا بأنك ربنا الذي أمتنا وأحييتنا وطال امهالك لنا فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج لنا من سبيل فنسلكه في طاعتك واتباع مرضاتك. وفي الكلام حذف وتقديره: فأجيبوا ليس من سبيل لكم إلى الخروج (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم) أي إذا دعي الله وحده دون آلهتكم جحدتم ذلك (وإن يشرك به تؤمنوا) أي إن يشرك به معبودا آخر من الأصنام والأوثان تصدقوا. ثم قال (فالحكم الله) في ذلك والفاصل بين الحق والباطل (العلي الكبير) فالعلي القادر على كل شئ يجب أن يكون قادرا عليه، ويصح ذلك منه وصفة القادرين تتفاضل، فالعلي القادر الذي ليس فوقه من هو أقدر منه ولا من هو مساو له في مقدوره، وجاز وصفه تعالى بالعلي، لان الصفة بذلك قد تقلب من علو المكان إلى علو الشأن يقال: استعلى عليه بالقوة، واستعلى عليه بالحجة وليس كذلك الرفعة فلذلك لا يسمى بأنه رفيع، والكبير العظيم في صفاته التي لا يشاركه فيها غيره. وقال الجبائي: معناه السيد الجليل. ثم قال تعالى (هو الذي يريكم آياته) يعني حججه ودلائله (وينزل من السماء رزقا) من الغيث والمطر الذي ينبت ما هو رزق الخلق (وما يتذكر إلا من ينيب) أي ليس يتفكر في حقيقة ذلك إلا من يرجع إليه. وقال السدي: معناه إلا من يقبل إلى طاعة الله. ثم امر الله تعالى المكلفين، فقال (فادعوا الله مخلصين له الدين) أي وجهوا عبادتكم إليه تعالى وحده (ولو كره) ذلك (الكافرون) فلا تبالوا بهم. ثم رجع إلى وصف نفسه فقال (رفيع الدرجات) وقيل معناه رفيع طبقات الثواب التي يعطيها الأنبياء والمؤمنين في الجنة (ورفيع) نكرة أجراها على الاستئناف أو على تفسير المسألة الأولى، وتقديره، وهو رفيع (ذو العرش) بأنه مالكه وخالقه ومعناه عظيم الثواب لهم والمجازاة على طاعتهم (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) قيل: الروح القرآن وكل كتاب أنزله الله على نبي من أنبيائه وقيل: معنى الروح - ههنا - الوحي، لأنه يحيا به القلب بالخروج من الجهالة إلى المعرفة ومنه قوله (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) (3) ذكره قتادة والضحاك وابن زيد. وقيل: الروح - ههنا - النبوة، وتقديره لينذر من يلقي عليه الروح يوم التلاق: من يختاره لنبوته ويصطفيه لرسالته. وقوله (لينذر يوم التلاق) أي ليخوف يوم يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض - في قول قتادة والسدي وابن زيد - وقيل يوم يلقى فيه المرؤ عمله، وهو يوم القيامة حذر منه، وقيل يوم يلتقي فيه الأولون والآخرون. والضمير في قوله (لينذر كناية) عن النبي صلى الله عليه وآله. ويحتمل أن يكون فيه ضمير الله، والأول أجود، لأنه قد قرئ بالتاء، وهو حسن. ومن أثبت الياء فلأنها الأصل، ومن حذف اجتزأ بالكسرة الدالة عليها. وقوله (يوم هم بارزون) أي يظهرون من قبورهم ويهرعون إلى ارض المحشر وهو يوم التلاق ويوم الجمع ويوم الحشر. ونصب (يوم) على الظرف. وقوله لا يخفى على الله منهم شئ) إنما خصهم بأنه لا يخفى عليه منهم شئ وإن كان لا يخفى عليه لا منهم ولا (من) غيرهم شئ لاحد أمرين:
أحدهما: أن تكون (من) لتبيين الصفة لا للتخصيص والتبعيض.
الآخر: أن يكون بمعنى يجازيهم من لا يخفى عليه شئ منهم، فذكر بالتخصيص لتخصيص الجزاء بمن يستحقه دون مالا يستحقه ولا يصحل له من المعلوم. وقيل: لا يخفى على الله منهم شئ فلذلك صح أنه انذرهم جميعا. وقوله (لمن الملك اليوم) قيل في معناه قولان:
أحدهما: انه تعالى يقرر عباده، فيقول لمن الملك؟فيقر المؤمنون والكافرون بأنه لله الواحد القهار
الثاني: انه القائل لذلك وهو المجيب لنفسه، ويكون في الاخبار بذلك مصلحة للعباد في دار التكليف. والأول أقوى لأنه عقيب قوله (يوم هم بارزون) وإنما قال (لمن الملك اليوم) مع أنه يملك الأنبياء والمؤمنين في الآخرة الملك العظيم لاحد وجهين:
أحدهما: لأنه على تخصيص يوم القيامة قبل تمليك أهل الجنة ما يملكهم
الثاني: لا يستحق إطلاق الصفة بالملك إلا الله تعالى، لأنه يملك جميع الأمور من غير تمليك مملك، فهو أحق باطلاق الصفة. وقوله (اليوم تجزى كل نفس ما كسبت لا ظلم اليوم) اخبار منه تعالى أن يوم القيامة تجزى كل نفس على قدر عملها لا يؤاخذ أحد بجرم غيره، لا يظلم ذلك اليوم أحد ولا يبخس حقه (إن الله سريع الحساب) لا يشغله محاسبة واحد عن محاسبة غيره، فحساب جميعهم على حد واحد.
1- سورة 2 البقرة آية 28.
2- سورة 6 الانعام آية 28.
3- سورة 42 الشورة آية 52.