الآيات 6-10

قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إلى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾

القراءة:

قرأ نافع وابن عامر " حقت كلمات " على الجمع. الباقون على التوحيد. من وجد فلان الكلمة تقع على القليل والكثير مفردة. ومن جمع فلان ذلك قد يجمع إذا اختلف أجناسها، كما قال " وصدقت بكلمات ربها " (1) يعني شرائعه لان كتبه قد ذكرت. والمعنى وحقت كلمات ربك، كقولهم: الحق لازم. ووجه التشبيه في قوله " وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا " أن الكفار يعاقبون في الآخرة بالنار، كما عوقبوا في الدنيا بعذاب الاستئصال إلا انهم في الآخرة على ملازمة النار والحصول فيها، وقد حقت الكلمة عليهم في الامرين جميعا، فحقت الكلمة على هؤلاء كما حقت الكلمة على أولئك، وموضع " إنهم أصحاب النار " يحتمل أن يكون نصبا على تقدير بأنهم أو لأنهم. ويحتمل أن يكون رفعا على البدل من (كلمة). وقال الحسن: حقت كلمة ربك على مشركي العرب كما حقت على من قبلهم. ثم اخبر تعالى عن حال الملائكة وعظم منزلتهم بخلاف ما عليه الكفار من البشر، فقال " الذين يحملون العرش " عبادة لله تعالى وامتثالا لامره " ومن حوله " يعني الملائكة الذين حول العرش يطوفون به ويلجئون إليه " يسبحون بحمد ربهم " أي ينزهونه عما لا يليق به ويحمدونه على نعمه " ويؤمنون به " أي ويصدقون به ويعترفون بوحدانيته " ويستغفرون للذين آمنوا " أي يسألون الله المغفرة للذين آمنوا - من البشر - أي صدقوا بوحدانيته واعترفوا بالإلهية. ويقولون: أيضا مع ذلك " ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما " ونصبهما على التميز ومعناه وسعت رحمتك أي نعمتك ومعلومك كل شئ. فنقل الفعل إلى الموصوف على وجه المبالغة، كما قالوا: طبت به نفسا، وجعل العلم في موضع المعلوم، كما قال " ولا يحيطون بشئ من علمه " (2) أي بشئ من معلومه على التفصيل، وتقديره: وسعت رحمتك وعلمك كل شئ، ويقولون أيضا ربنا " فاغفر للذين تابوا " من معاصيك ورجعوا إلى طاعتك " واتبعوا سبيلك " الذي دعوت خلقك إليه من التوحيد وإخلاص العبادة " وقهم عذاب الجحيم " أمنع منهم عذاب جهنم لا يصل إليهم، وحذف يقولون قبل قوله " ربنا " لأنه مفهوم من الكلام. واستغفارهم للذين تابوا يدل على أن اسقاط العقاب غير واجب لأنه لو كان واجبا لما كان يحتاج إلى مسألتهم بل الله تعالى كان يفعله لا محالة. ثم حكى تمام ما يدعوا به حملة العرش والملائكة للمؤمنين، فإنهم يقولون أيضا " ربنا وأدخلهم " مع قبول توبتك منهم ووقاية النار (جناب عدن التي وعدتهم) أي الجنة التي وعدت المؤمنين بها وهي جنة عدن أي إقامة وخلود ودوام (ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) كل ذلك في موضع نصب. ويحتمل أن يكون عطفا على الهاء والميم في (وأدخلهم) وتقديره وادخل من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم الجنة أيضا. ويحتمل أن يكون عطفا على الهاء والميم في (وعدتهم) وتقديره أدخلهم جنات عدن التي وعدت المؤمنين ووعدت من صلح من آبائهم (إنك أنت العزيز) في انتقامك من أعدائك (الحكيم) في ما تفعل بهم وبأولئك، وفي جميع أفعالك. وقولهم (وقهم السيئات) معناه وقهم عذاب السيئات ويجوز أن يكون العذاب هو السيئات وسماه سيئات، كما قال (وجزاء سيئة سيئة) (3) للاتساع وقوله (ومن تق السيئات) أي تصرف عنه شر عاقبة سيئاته من صغير اقترفه أو كبير تاب منه فتفضلت عليه (يومئذ) يعني يوم القيامة (فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم) أي صرف العذاب عنهم هو الفلاح العظيم، والفوز الظاهر. ثم اخبر تعالى (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الايمان فتكفرون) قال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: مقتوا أنفسهم حين عاينوا العقاب، فقيل لهم: مقت الله إياكم أكبر من ذلك. وقال الحسن: لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم. وقال البلخي: لما تركوا الايمان وصاروا إلى الكفر فقد مقتوا أنفسهم أعظم المقت، كما يقول أحدنا لصاحبه: إذا كنت لا تبالي بنفسك فلما أبالي بك ؟! وليس يريد انه لا يبالي بنفسه لكنه يفعل فعل من هو كذلك. وقال قوم: لمقت الله أكبر من مقت بعضكم لبعض. والمقت أشد العداوة والبغض ثم بين أن مقت الله إياهم حين دعاهم إلى الايمان على لسان رسله فكفروا به وبرسلهم فمقتهم الله عند ذلك، وتقدير (ينادون لمقت الله) ينادون إن مقت الله إياكم، ونابت اللام مناب (إن) كما تقولون ناديت إن زيدا لقائم وناديت لزيد قائم. وقال البصريون هذه لام الابتداء، كما يقول القائل: لزيد أفضل من عمرو أي يقال لهم والنداء قول.


1- سورة 66 التحريم آية 12.

2- سورة 2 البقرة آية 256.

3- سورة 42 الشورى آية 40.