الآيات 27-30

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ، قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾

هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين ينهاهم أن يدخلوا بيوتا لا يملكونها، وهي ملك غيرهم إلا بعد أن يستأنسوا، ومعناه يستأذنوا، والاستئناس الاستئذان - في قول ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم وقتادة - وكأن المعنى يستأنسوا بالاذن. وروي عن ابن عباس أنه قال: القراءة " حتى تستأذنوا " وإنما وهم الكتاب. وهو قول سعيد ابن جبير، وبه قرأ أبي بن كعب. وقال مجاهد: حتى تستأنسوا بالتنحنح والكلام الذي يقوم مقام الاستئذان. وقد بين الله تعالى ذلك في قوله " وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا " (1) قال عطاء: وهو واجب في أمه وسائر أهله والاستئناس طلب الانس بالعلم أو غيره، كقول العرب: اذهب فاستأنس هل ترى أحدا، ومنه قوله " فان آنستم منهم رشدا " (2) اي علمتم. وقوله " وتسلموا على أهلها " معناه على أهل البيوت ينبغي أن تسلموا عليهم وإذا أذنوا لكم في الدخول فادخلوها. وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (الاستئذان ثلاث، فان أذنوا، وإلا فارجع) فدعاه عمر، فقال لتأتيني بالبينة وإلا عاقبتك، فمضى أبو موسى، فأتى بمن سمع الحديث معه. والفرق بين الاذن في الدخول، وبين الدعاء إليه، أن الدعاء إليه، يدل على إرادة الداعي، وليس كذلك الاذن. وفى الدعاء رغبة الداعي أو المدعو، وليس كذلك الاذن وقوله " ذلكم خير لكم " يعني الاستئذان خير لكم من تركه، لتتذكروا في ذلك، فلا تهجموا على العورات. وقوله " فإن لم تجدوا فيها أحدا " يعني ان لم تعلموا في البيوت أحدا يأذن لكم في الدخول " فلا تدخلوها " لأنه ربما كان فيما مالا يجوز أن تطلعوا عليه إلا بعد أن يأذن أربابها في ذلك، يقال: وجد إذا علم. وقوله (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا) أي لا تدخلوا إذا قيل لكم: لا تدخلوا، فان ذلك (أزكى لكم) اي أطهر (والله بما تعملون عليم) أي عالم بأعمالكم لا يخفى عليه شئ منها. ثم قال (ليس عليكم جناح) أي حرج وإثم (ان تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم) أي منافع. وقيل: في معنى هذه البيوت أربعة أقوال:

أحدها: قال قتادة: هي الخانات، فان فيها استمتاعا لكم من جهة نزولها، لا من جهة الأثاث الذي لكم فيها.

الثاني: قال محمد بن الحنفية: هي الخانات التي تكون في الطرق مسبلة. ومعنى (غير مسكونة) اي لا ساكن لها معروف.

الثالث: قال عطاء: هي الخرابات للغائط والبول.

الرابع: قال ابن زيد: هي بيوت التجار التي فيها أمتعة الناس. وقال قوم: هي بيوت مكة. وقال مجاهد: هي مناخات الناس في أسفارهم يرتفقون بها. وقال قوم: هي جميع ذلك حملوه على عمومه لان الاستئذان إنما جاء لئلا يهجم على ما لا يجوز من العورة. وهو الأقوى، لأنه أعم فائدة. وقوله (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) اي لا يخفى عليه ما تظهرونه، ولا ما تكتمونه، لأنه عالم بجميع ذلك. ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله فقال (قل) يا محمد (للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) عن عورات النساء وما يحرم النظر إليه. وقيل: العورة من النساء ما عدا الوجه والكفين والقدمين، فأمروا بغض البصر عن عوراتهن، ودخلت (من) لابتداء الغاية. ويجوز أن تكون للتبعيض، والمعنى أن يطرق وإن لم يغمض. وقيل: العورة من الرجل العانة إلى مستغلظ الفخذ من أعلى الركبة، وهو العورة من الإماء، قالوا: ويدل على أن الوجه والكفين والقدمين ليس من العورة من الحرة، ان لها كشف ذلك في الصلاة، وإذا كانت محرمة مثل ذلك، بالاجماع، والقدمان فيهما خلاف. وقوله (ويحفظوا فروجهم) أمر من الله تعالى أن يحفظ الرجال فروجهم عن الحرام، وعن إبدائها حيث ترى فإنهم متى فعلوا ذلك كان أزكى لاعمالهم عند الله وإن الله خبير بما يعملون ويصنعون اي عالم بما يعملونه اي على اي وجه يعملونه. وقال مجاهد: قوله (فإن لم تجدوا فيها أحدا) معناه فإن لم يكن لكم فيها متاع، فلا تدخلوها إلا باذن، فان قيل لكم ارجعوا فارجعوا، وهذا بعيد، لان لفظة (أحد) لا يعبر بها إلا عن الناس، ولا يعبر بها عن المتاع.


1- سورة 4 النساء آية 10.

2- سورة 24 النور آية 59.