الآيات 11-15

قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ، لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ، لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾

يقول الله تعالى مخاطبا لامة محمد صلى الله عليه وآله " إن الذين جاؤوا بالافك " يعني الذين أتوا بالافك، وهو الكذب الذي قلب فيه الامر عن وجهه، واصله الانقلاب، ومنه (المؤتفكات) وأفك يأفك افكا إذا كذب. لأنه قلب المعنى عن حقه إلى باطله، فهو آفك، مثل كاذب، وقوله " عصبة منكم " يعني جماعة منكم، ومنه قوله " ليوسف واخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة " (1) ويقال: تعصب القوم إذا اجتمعوا على هيئة، فشد بعضهم بعضا. والعصبة في النسب العشيرة المقتدرة، لأنه يجمعها التعصب. وقال ابن عباس: منهم (عبد الله بن أبي بن سلول) وهو الذي تولى كبره، وهو من رؤساء المنافقين. و (مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش) وهو قول عائشة، وكان سبب الافك ان عائشة ضاع عقدها في غزوة بني المصطلق، وكانت تباعدت لقضاء الحاجة، فرجعت تطلبه، وحمل هودجها على بعيرها ظنا منهم بها أنها فيه، فلما صارت إلى الموضع وجدتهم قد رحلوا عنه، وكان صفوان ابن معطل السلمي الذكواني من وراء الجيش فمر بها، فلما عرفها أناخ بعيره حتى ركبته، وهو يسوقه حتى أتى الجيش بعد ما نزلوا في قائم الظهيرة. هكذا رواه الزهري عن عائشة. وقوله " لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم " خطاب لمن قرب بالافك من عائشة، ومن اغتم لها، فقال الله تعالى لا تحسبوا غم الافك شرا لكم بل هو خير لكم، لان الله (عز وجل) يبرئ ساحته ببراءتها، وينفعها بصبرها واحتسابها، وما ينل منها من الأذى والمكروه الذي نزل بها، ويلزم أصحاب الافك ما استحقوه بالاثم الذي ارتكبوه في أمرها. ثم اخبر تعالى فقال " لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم " أي له جزاء ما اكتسب من الاثم من العقاب. ثم قال " والذي تولى كبره منهم " يعني (ان أبي بن سلول) تحمل ومعظمه و (كبره) مصدر من معنى الكبير من الأمور. قال أبو عبيدة: فرقوا بينه وبين مصدر الكبر في السن، يقال: فلان ذو كبر أي ذو كبرياء. وقرأ أبو جعفر المدني بضم الكاف. الباقون بكسرها، فالكبر بضم الكاف من كبر السن، وهو كبير قومه أي معظمهم، والكبر والعظم واحد. وقيل: دخل حسان على عائشة فأنشدها قوله في بيته:

حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثى من لحوم القوافل (2)

فقالت له: لكنك لست كذلك. وقوله " له عذاب عظيم " يعني جزاء على ما اكتسبه من الاثم. وقوله " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " معناه هلا حين سمعتم هذا الافك من القائلين ظن المؤمنون بالمؤمنين الذين هم كأنفسهم خيرا، لان المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور، فإذا جرى على أحدهم محنة، فكأنه جرى على جماعتهم، وهو كقوله " فسلموا على أنفسكم " (3) وهو قول مجاهد، قال الشاعر في (لولا) بمعنى (هلا):

تعدون عقر النيب أفضل مجد لكم * بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا (4)

اي فهلا تعدون قتل الكمي. وقوله تعالى " وقالوا هذا افك مبين " معناه وهلا قالوا هذا القول كذب ظاهر. ثم قال تعالى " لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء " أي هلا جاؤوا على ما قالوه ببينة أربعة من الشهداء " فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك " الذين قالوا هذا الافك " هم الكاذبون " عند الله، والمعنى انهم كاذبون في عيبهم، فمن جوز صدقهم، فهو راد لخبر الله تعالى، فالآية دالة على كذب من قذف عائشة، وافك عليها. فأما في غيرها إذا رماها الانسان، فانا لا نقطع على كذبه عند الله، وإن أقمنا عليه الحد، وقلنا هو كاذب في الظاهر، لأنه يجوز أن يكون صادقا عند الله، وهو قول الجبائي. ثم قال تعالى على وجه الامتنان على المؤمنين " ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم " جزاء على خوضكم في قصة الافك وإفاضتكم فيه. وقيل في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وقوله " إذ تلقونه بألسنتكم " تقديره: لمسكم عذاب عظيم حين تلقونه بألسنتكم، ومعناه برواية بعضكم عن بعض لتشييعه - في قول مجاهد - وروي عن عائشة أنها قرأت " تلقونه " من ولق الكذب، وهو الاستمرار على الكذب ومنه: ولق فلان في السير إذا استمر به، ويقال. في الولق من الكذب: الالق والالق، تقول: ألقت وأنتم تألقونه. أنشد الفراء:

من لي بالمرر واليلامق * صاحب أدهان وألق آلق (5)

فتح الألف من ادهان، وقال الراجز:

إن الحصين زلق وزملق * جاءت به عيس من الشام تلق

وينشد أيضا: ان الحصين زلق وزملق * جاءت به عنس من الشام تلق مجوع البطن كلاليم الحلق وقوله " تقولون بأفواهكم ما ليس به علم " من وجه الافك " وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " اي تظنونه حقيرا وهو عند الله عظيم لأنه كذب وافتراء.


1- ديوانه " دار بيروت " 452.

2- سورة 12 يوسف آية 8.

3- تفسير القرطبي 12 / 200.

4- سورة 24 النور آية 61.

5- قائلة جرير ديوانه (دار بيروت) 265، وقد مر في 1 / 319، 435 و 6 / 319 ورواية الديوان: تعدون عقر النيب أفضل سعيكم * بني ضوطرى هلا الكمي المقنعا.