الآيات 2-3
قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ، الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير الا ابن فليح (رآفة) بفتح الهمزة على وزن (فعالة). الباقون بسكونها، وهما لغتان في المصدر، يقال: رأف رأفة مثل كرم كرما. وقيل: رآفة مثل سقم سقامة. والرأفة رقة الرحمة. أمر الله تعالى في هذه الآية: أن يجلد الزاني، والزانية إذا لم يكونا محصنين (كل واحد منهما مئة جلدة) وإذا كانا محصنين أو أحدهما، كان على المحصن الرجم بلا خلاف. وعندنا انه يجلد أولا مئة جلدة ثم يرجم، وفي أصحابنا من خص ذلك بالشيخ والشيخة إذا زنيا وكانا محصنين، فأما إذا كانا شابين محصنين لم يكن عليهما غير الرجم، وهو قول مسروق. وفي ذلك خلاف ذكرناه في خلاف الفقهاء. والاحصان الذي يوجب الرجم هو أن يكون له زوج يغدو إليه ويروح على وجه الدوام، وكان حرا. فأما العبد، فلا يكون محصنا، وكذلك الأمة لا تكون محصنة، وإنما عليهما نصف الحد: خمسون جلدة، والحر متى كان عنده زوجة يتمكن من وطئها مخلى بينه وبينها سواء كانت حرة أو أمة، أو كان عنده أمة يطؤها بملك اليمين، فإنه متى زنا وجب عليه الرجم، ومن كان غائبا عن زوجته شهرا فصاعدا أو كان محبوسا أو هي محبوسة هذه المدة، فلا أحصان. ومن كان محصنا على ما قدمناه ثم ماتت زوجته أو طلقها بطل احصانه. وفى جميع ذلك خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف. والخطاب بهذه الآية وإن كان متوجها إلى الجماعة، فالمراد به الأئمة بلا خلاف، لأنه لا خلاف أنه ليس لأحد إقامة الحدود إلا للامام أو من يوليه الامام. ومن خالف فيه لا يعتد بخلافه. والزنا هو وطؤ المرأة في الفرج من غير عقد شرعي ولا شبهة عقد شرعي مع العلم بذلك أو غلبة الظن. وليس كل وطئ حرام زنا، لأنه قد يطؤ امرأته في الحيض والنفاس، وهو حرام، ولا يكون زنا، وكذلك لو وجد امرأة على فراشه، فظنها زوجته أو أمته فوطأها لم يكن ذلك زنا، لأنه شبهة. وقوله " ولا تأخذهم بهما رأفة في دين الله " قال مجاهد وعطاء ابن أبي رياح وسعيد بن جبير وإبراهيم: معناه لا تمنعنكم الرأفة والرحمة من إقامة الحد. وقال الحسن وسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وحماد: لا يمنعكم ذلك من الجلد الشديد. (والرأفة) بسكون الهمزة. والرآفة - بفتح الهمزة - مثل الكأبة والكآبة، والسأمة والسآمة، وهما لغتان، وبفتح الهمزة قرأ ابن كثير على ما قدمناه. وقوله " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " أي إن كنتم تصدقون بما وعد الله وتوعد عليه، وتقرون بالبعث والنشور، فلا تأخذكم في من ذكرناه الرأفة، ولا تمنعكم من إقامة الحد على من ذكرناه، وقوله " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " قال مجاهد وإبراهيم: الطائفة رجل واحد. وعن أبي جعفر (ع) ان أقله رجل واحد. وقال عكرمة: الطائفة رجلان فصاعدا. وقال قتادة والزهري: هم ثلاثة فصاعدا. وقال ابن زيد: أقله أربعة. وقال الجبائي: من زعم أن الطائفة أقل من ثلاثة فقد غلط من جهة اللغة، ومن جهة المراد بالآية، من احتياطه بالشهادة. وقال: ليس لأحد ان يقيم الحد إلا الأئمة وولاتهم، ومن خالف فيه فقد غلط، كما أنه ليس للشاهد ان يقيم الحد. وقد دخل المحصن في حكم الآية بلا خلاف. وكان سيبويه يذهب إلى أن التأويل: في ما فرض عليكم، الزانية والزاني، ولولا ذلك لنصب بالامر. وقال المبرد: إذا رفعته ففيه معنى الجزاء، ولذلك دخل الفاء في الخبر، والتقدير التي تزني، والذي يزني، ومعناه من زنى فاجلدوه، فيكون على ذلك عاما في الجنس. وقال الحسن: رجم النبي صلى الله عليه وآله الثيب (1) وأراد عمر ان يكتبه في آخر المصحف ثم تركه، لئلا يتوهم انه من القرآن. وقال قوم: إن ذلك منسوخ التلاوة دون الحكم. وروي عن علي (ع) ان المحصن يجلد مئة بالقرآن، ثم يرجم بالسنة. وانه امر بذلك. وقوله " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك... " الآية. قيل: انها نزلت على سبب، وذلك أنه استأذن رجل من المسلمين النبي صلى الله عليه وآله ان يتزوج امرأة من أصحاب الرايات، كانت تسافح، فأنزل الله تعالى الآية. وروي ذلك عن عبد الله بن عمر، وابن عباس: وقال حرم الله نكاحهن على المؤمنين، فلا يتزوج بهن الا زان أو مشرك. وقال مجاهد والزهري والشعبي: ان النبي استؤذن فيها أم مهزول. وقيل النكاح - ههنا - المراد به الجماع، والمعنى الاشتراك في الزنا، يعني انهما جميعا يكونان زانيين، ذكر ذلك ابن عباس. وقد ضعف الطبري ذلك، قال: لا فائدة في ذلك. ومن قال بالأول، قال: الآية وإن كان ظاهرها الخبر، فالمراد به النهي. وقال سعيد بن جبير: معناه انها زانية مثله. وهو قول الضحاك وابن زيد. وقال سعيد ابن المسيب: كان ذلك حكم كل زان وزانية، ثم نسخ بقوله (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين) (2)، وبه قال أكثر الفقهاء. وقال الرماني: وجه التأويل انهما مشتركان في الزنا، لأنه لا خلاف انه ليس لأحد من أهل الصلاة ان ينكح زانية وان الزانية من المسلمات حرام على كل مسلم من أهل الصلاة، فعلى هذا له ان يتزوج بمن كان زنى بها. وعن أبي جعفر (ع) (ان الآية نزلت في أصحاب الرايات، فأما غيرهن فإنه يجوز ان يتزوجها، وإن كان الأفضل غيرها، ويمنعها من الفجور). وفى ذلك خلاف بين الفقهاء.
1- قائله النابغة الذبياني ديوانه " دار بيروت " 18 وقد مر في 1 / 19، 3 / 366 من هذا الكتاب.
2- في المخطوط (البنت).