الآيات 111-118
قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ، قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ، قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾
القراءة:
قرأ حمزة والكسائي وخارجة عن نافع " انهم هم الفائزون " بكسر الهمزة. الباقون بفتحها. وقرأ ابن كثير " قل كم لبثتم " على الامر. الباقون " قال كم لبثتم " على الخبر. وقرأ حمزة والكسائي " قل " فيهما على الامر. الباقون " قال " فيهما على الخبر. وقرأ " ترجعون " بفتح التاء وكسر الجيم حمزة والكسائي. الباقون بضم التاء وفتح الجيم. اخبر الله تعالى " اني جزيتهم اليوم " يعني المؤمنين الذين سخر منهم الكفار في دار التكليف، وأكافيهم على صبرهم ومضضهم في جنب الله، على أقوال الكفار وهزؤهم بهم ب? " أنهم هم الفائزون " وحذف الباء، ونصب الهمزة، وقيل: إنها في موضع جر، وتقديره جزيتهم بفوزهم بالجنة. وقيل تقديره: لأنهم هم الفائزون. ومن خفض الهمزة فاستأنف، فالجزاء مقابلة العمل بما يستحق عليه من ثواب أو عقاب كما يقال: الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا. والصبر حبس النفس عما تنازع إليه مما لا يحسن، أوليس بأولى، لان الصبر طاعة الله لما وعد عليه من الجزاء، والطاعة قد تكون فرضا، وقد تكون نفلا. وقوله " اليوم " يريد به أيام الجزاء لا يوما بعينه، لان اليوم هو ما بين طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس وليس المراد في الآية ذلك. قوله " قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين " فمن قرأ " قال " فمعناه قال الله لهم كم لبثتم. ومن قرأ " قل " معناه قل لهم يا محمد، واللبث هو المكث وهو حصول الشئ على الحال أكثر من وقت واحد، والابث هو الكائن على الصفة، على مرور الأوقات. والعدد عقد يظهر به مقدار المعدود، يقال: عده يعده عدا وعددا، فهو عاد. والحساب واخراج المقدار في الكمية وهي العدة، وهذا السؤال لهم على وجه التوبيخ لانكارهم البعث والنشور، فيقول الله لهم إذا بعثهم (كم لبثتم في الأرض عدد سنين) اي أين ما كنتم تنكرون من أجابت الرسل وما جاءت به وتكذبون به. وقوله " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) فسأل العادين قال مجاهد: معناه فسأل العادين من الملائكة لأنهم يحصون أعمال العباد. وقال قتادة: العادين هم الحساب الذين يعدون الشهور والسنين، ولا يدل ذلك على بطلان عذاب القبر، لأنهم لم يكونوا يعدون كاملي العقول، وقد صح عذاب القبر بتضافر الاخبار عن النبي صلى الله عليه وآله واجماع الأمة عليه - ذكره الرماني - ولا يحتاج إلى هذا، لأنه لا يجوز أن يعاقب الله العصاة إلا وهم كاملوا العقول ليعلموا أن ذلك واصل إليهم على وجه الاستحقاق. ووجه اخبارهم بيوم أو بعض يوم، هو الاخبار عن قصر المدة، وقلته، لما مضى لسرعة حصولهم في ما توعدهم الله تعالى، فيقول الله تعالى في الجواب (ان لبثتم الا قليلا) اي لم تلبثوا إلا قليلا، والمراد ما قلناه من قصر المدة كما قال (اقترب للناس حسابهم) (1) وكما قال (اقتربت الساعة) (2) وكما قال (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) (3) وقال الحسن: معناه (إن لبثتم إلا قليلا) في طول لبثكم في النار، والقلة والكثرة يتغير ان بالإضافة، فقد يكون الشئ قليلا بالإضافة إلى ما هو أكثر منه، ويكون كثيرا بالإضافة إلى ما هو أقل منه (لو أنكم كنتم تعلمون) صحة ما أخبرناكم به. ثم قال لهم (أفحسبتم) معاشر الجاحدين للبعث والنشور (أنما خلقناكم عبثا) لا لغرض! ؟! أي ظننتم، والحسبان والظن واحد، أحد ظننتم انا خلقناكم لا لغرض، وحسبتم (أنكم الينا لا ترجعون) أي إلى الحال التي لا يملك نفعكم وضركم فيها إلا الله، كما كنتم في ابتداء خلقكم قبل أن يملك أحدا شيئا من أمركم. ثم نزه تعالى نفسه عن كل دنس، وأخبر انه (فتعالى الله الملك الحق) ومعناه: علا معنى صفته، فوق كل صفة لغيره، فهو تعظيم الله تعالى بأن كل شئ سواه يصغر مقداره عن معنى صفته. (والملك الحق) هو الذي يحق له الملك، بأنه ملك غير مملك، وكل ملك غيره، فملكه مستعار له، وإنما يملك ما ملكه الله، فكأنه لا يعتد بملكه في ملك ربه، والحق هو الشئ الذي من اعتقده كان على ما اعتقده، فالله الحق، لأنه من اعتقد انه لا إله إلا هو، فقد اعتقد الشئ على ما هو به. وقوله (رب العرش الكريم) أي خالقه، ووصفه العرش بأنه كريم تعظيم له باتيان الخير من جهته، بما دبره الله لعباده، والكريم في أصل اللغة القادر على التكرم من غير مانع. ثم قال " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به " ومعناه إن من دعا مع الله إلها سواه لا يكون له على ذلك برهان ولا حجة، لأنه باطل، ولو دعا الله ببرهان لكان محقا، واجري على ذلك قوله " ويقتلون النبيين بغير حق " (4) وقول الشاعر: على لاحب لا يهتدى بمناره (5) وقوله " فإنما حسابه على ربه " يعني الله الذي يبين له مقدار ما يستحقه من ثواب أو عقاب. ثم اخبر تعالى بأنه " لا يفلح الكافرون " يعني الجاحدين لنعم الله، والمنكرين لتوحيده، والدافعين للبعث والنشور. ثم امر نبيه صلى الله عليه وآله فقال له " قل " يا محمد " رب اغفر وارحم " أي اغفر الذنوب، وانعم على خلقك. " وأنت خير الراحيم " معناه أفضل من رحم وانعم على غيره، وأكثرهم نعمة وأوسعهم فضلا.
1- سورة 21 الأنبياء آية 1.
2- سورة 54 القمر آية 1.
3- سورة 16 النحل آية 77.
4- سورة 3 آل عمران آية 21.
5- انظر 2 / 356، 423 و 6 / 213.