الآيات 81-90

قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو " سيقولون الله " في الأخيرتين. الباقون " لله " بغير الف، ولا خلاف في الأولى أنها بغير الف. اخبر الله تعالى حاكيا عن الكفار ممن عاصر النبي صلى الله عليه وآله أنهم لم يؤمنوا بالله ولم يصدقوا رسوله في اخلاص العبادة له تعالى " بل قالوا مثل ما قال الأولون " أي مثل الذي قاله الكفار الأولون: من انكار البعث والنشور والحساب والجنة والنار، فأقوال هؤلاء مثل أقوال أولئك. وإنما دخلت عليهم الشبهة في انكار البعث، لأنهم لم يشاهدوا ميتا عاش، ولا جرت به العادة، وشاهد والنشأة الأولى من ميلاد من لم يكن موجودا. ولو فكروا في أن النشأة الأولى أعظم منه لعلموا أن من أنكره فقد جهل جهلا عظيما، وذهب عن الصواب ذهابا بعيدا، لان من قدر على اختراع الأجسام لامن شئ، قدر على إعادتها إلى الصفة التي كانت عليها، مع وجودها. ثم حكى ما قال كل منهم، فإنهم قالوا منكرين " أ إذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون " أي كيف نصير أحياء بعد ان صرنا ترابا ورمما وعظاما نخرة ؟! ثم قالوا " لقد وعدنا " بهذا الوعد " نحن وآباؤنا " من قبل هذا الموعد، فلم نر لذلك صحة، ولا لهذا الوعد صدقا، وليس " هذا إلا أساطير الأولين " أي ما سطره الأولون مما لا حقيقة له، وإنما يجري مجرى حديث السمر الذي يكتب للاطراف به. والأساطير هي الأحاديث المسطرة في الكتب، واحدها أسطورة. فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله " قل " يا محمد لهؤلاء المنكرين للبعث والنشور " لمن الأرض ومن فيها " أي من يملك الأرض ويملك من فيها من العقلاء (وقوله " إن كنتم تعلمون " موافقة لهم في دعواهم. ثم قال في الجواب " سيقولون لله " أي سيقولون إن السماوات والأرض ومن فيهما الله، لأنهم لم يكونوا يجحدون الله. وإنما كذبوا الرسول. وقوله " قل أفلا تذكرون " أي أفلا تتفكرون في مالكها. وتتذكرون قدرته وانه لا يعجزه شئ عن إعادتكم بعد الموت، مرة ثانية كما أنشأكم أول مرة) (1) ثم قال له " قل " يا محمد لهم أيضا " من رب السماوات السبع " أي من مالكها والمتصرف فيها؟ولولاه لبطل كل شئ سواه، لأنه لا يصح إلا مقدوره أو مقدور مقدوره، فقوام كل ذلك به، ولا تستغني عنه طرفة عين لأنها ترجع إلى تدبيره على ما يشاء (عز وجل) وكذلك هو تعالى " رب العرش العظيم " وإنما وجب أن يكون رب السماوات والعرش، من حيث كانت هذه الأشياء جميعها محدثة، لا بدلها من محدث اخترعها وأنشأها، ولابد لها من مدبر يدبرها ويمسكها، ويصرفها على ما تتصرف عليه، ولابد أن يختص بصفات: من كونه قادرا عالما لنفسه ليتأتى منه جميع ذلك، على ما دبره. ولولا كونه على هذه الصفات، لما صح ذلك. ثم اخبر أنهم يقولون في الجواب عن ذلك رب السماوات ورب العرش هو " الله " ومن قرأ بلا ألف فمعناه انهم يقولون إنها " لله " فعند ذلك " قل " لهم " أفلا تتقون " الله، ولا تخافون عقابه على جحد توحيده والاشراك في عبادته ؟! ثم أمره بان يقول لهم أيضا " من بيده ملكوت كل شئ " والملكوت عظم الملك ووزنه (فعلوت) وهو من صفات المبالغة نحو (جبروت) ومن كلامهم (رهبوت خير من رحموت) أي ترهب خير من أن ترحم. وقال مجاهد: ملكوت كل شئ خزائن كل شئ، والمعنى أنه قادر على كل شئ إذا صح أن يكون مقدورا له. وقوله " وهو يجير " معناه أنه يعيذ بالمنع من السوء، لما يشاء " ولا يجار عليه " أي لا يمكن منع من أراده بسوء منه. وقيل " هو يجير " من العذاب " ولا يجار عليه " منه. والإجارة الإعاذة، والجار المجير المعيذ، وهو الذي يمنعك ويؤمنك ومن استجار بالله أعاذه، ومن أعاذه الله لم يصل إليه أحد. فإنهم " سيقولون الله " الذي له ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه. فقل لهم عند ذلك " أنى تسحرون " ومعناه كيف يخيل إليكم الحق باطلا، والصحيح فاسدا، مع وضوح الحق وتمييزه عن الباطل. ومن قرأ (الله) باثبات الألف، فلانه يطابق السؤال في قوله (من رب السماوات السبع ورب الأرض... ومن بيده ملكوت كل شئ) لان جواب ذلك على اللفظ أن يقولوا (الله). ومن قرأ " لله " باسقاط الألف، حمله على المعنى دون اللفظ، كقول القائل لمملوك: من مولاك؟فيقول انا لفلان، وانشد الفراء لبعض بني عامر:

واعلم انني سأكون رمسا * إذا سار النواعج لا يسير

فقال السائلون لمن حفرتم * فقال المخبرون لهم وزير (2)

لأنه بمنزلة من قال: من الميت؟فقالوا له: وزير، وذكر أنها في مصاحف أهل الأمصار بغير الف، ومصحف أهل البصرة فإنها بألف. (3) فأما الأولى فلا خلاف أنها بلا ألف لمطابقة السؤال في قول (قل لمن الأرض) والجواب يقتضي أن يقولوا: لله. وإنما أخبر الله تعالى عنهم، بأنهم يقولون في جواب السؤال: لله، لأنهم لو أحالوا على غير الله في أنه مالك السماوات والأرض، وأن غيره بيده ملكوت كل شئ وأن غيره رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، لظهر كذبهم. ولعلم كل أحد بطلان قولهم، لظهور الامر في ذلك. وقربه من دلائل العقول. وقوله (فأنى تسحرون) أي كيف تعمهون عن هذا، وتصدون عنه، من قولهم: سحرت أعيننا عن ذلك، فلم نبصره. وقيل معنى ذلك: فأنى تخدعون، كقول امرئ القيس: ونسحر بالطعام وبالشراب (4) أي نخدع، وقيل معناه أنى تصرفون، يقال: ما سحرك عن هذا الامر أي ما صرفك عنه. ثم أخبر تعالى إنه أتى هؤلاء الكفار بالحق الواضح: من توحيد الله وصفاته وخلع الأنداد دونه وأنه يبعث الخلق بعد موتهم، ويجازيهم على طاعاتهم بالثواب، وعلى معاصيهم بالعقاب، وان الكفار كاذبون فيما يخبرون بخلافه. قال المبرد: معنى (أنى) كيف، ومن أين.


1- ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.

2- تفسير الطبري 18 / 32.

3- وفي المخطوطة (في مصاحف أهل الشام بغير الف وفى مصاحف أهل الأمصار بالألف).

4- مر تخريجه في 1 / 372 و 5 / 268 و 6 / 485.