الآيات 47-50

قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ، فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾

يقول الله تعالى حكاية عن فرعون وقومه بعد ما أخبر عنهم بالاستكبار، والعلو على موسى وهارون، وترك إجابتهما انهم " قالوا أنؤمن " أي نصدق " لبشرين مثلنا " أي انسانين خلقهم مثل خلقنا، وسمي الانسان بشرا، لانكشاف بشرته، وهي جلدته الظاهرة، حتى احتاج إلى لباس يكنه، لان غيره من الحيوان مغطى البشرة بريش أو صوف أو شعر أو وبر أو صدف، لطفا من الله تعالى لهم إذ لم يكن هناك عقل يدبر أمره مع حاجته إلى ما يكنه. وهدى الانسان إلى ما يستغني به في هذا الباب. وقوله " وقومهما لنا عابدين " معناه انهم لنا مطيعون طاعة العبد لمولاه. وقال قوم: معناه إنهم يذلون لنا ويخضعون. وقال أبو عبيدة: كل من دان لملك، فهو عابد له، ومنه سمي أهل الحيرة العباد، لأنهم كانوا يطيعون ملوك العجم. قال الحسن: كان بنوا إسرائيل يعبدون فرعون. وفرعون يعبد الأوثان. ثم اخبر عنهم انهم كذبوا موسى وهارون، فكان عاقبة تكذيبهما أن أهلكهم الله وغرقهم. والاهلاك إلقاء الشئ بحيث لا يحس به، فهؤلاء هلكوا بالعذاب ويقال للميت: هالك من هذا المعنى. ثم اقسم تعالى انه آتى موسى الكتاب يعني التوراة التي فيها ما يحتاجون إليه لكي يهتدوا إلى طريق الحق، من معرفة الله وخلع الأنداد. وقوله " وجعلنا ابن مريم وأمه آية " معناه جعلناهما حجة، على أنه تعالى قادر على اختراع الأجسام من غير شئ، كما اخترع عيسى من غير أب. والآية - ههنا - في عيسى (ع) أنه ولد من غير فحل، ونطق في المهد. وفى أمه أنها حملته من غير ذكر وبرأها كلامه في المهد من الفاحشة. وقوله " وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " يقال: آوى إليه يأوي، وآواه غيره ويأويه ايواء أي جعله مأوى له. (والربوة) المكان المرتفع على ما حوله، ويجوز ضم الراء وفتحها وكسرها، وبالفتح قرأ عاصم وابن عامر. الباقون بالضم أيضا. ولم يقرأ أحد بالجر. ويقال: رباوة بفتح الراء وكسرها والف بعد الباء. فصار خمس لغات. والربوة التي أويا إليها هي الرملة - في قول أبي هريرة - وقال سعيد بن المسيب: هي دمشق، وقال ابن زيد: هي مصر. وقال قتادة هي بيت المقدس. وقال أبو عبيدة: يقال: فلان في ربوة من قومه أي في عز وشرف، وعدد. وقوله " ذات قرار " أي تلك الربوة لها ساحة وسعة أسفل منها. و " ذات معين " أي ماء جار، ظاهر بينهم. وقيل: معنى " ذات قرار " ذات استواء يستقر عليه. ومعين ماء جار ظاهر للعيون - في قول سعيد والضحاك - وقال قتادة " ذات قرار " ذات ثمار، ذهب إلى أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها. ومعين (مفعول) من عنته أعينه، ويجوز أن يكون (فعيلا) من معن يمعن، وهو الماعون، وهي الشئ القليل - في قول الزجاج - قال الراعي:

قوم على الاسلام لما يمنعوا * ما عونهم ويبدلوا التنزيلا

قيل معناه وفدهم. وقيل: زكاتهم. وأمعن في كذا إذا لم يترك منه إلا القليل. وقال الفراء: المعن الاستقامة. قال عبيد بن الأبرص:

واهية أو معين ممعن * أو هضبة دونها لهوب (1)

واحدها لهب، وهو شق في الجبل، واهية أي وهت. ومطر ممعن أي مار.


1- ديوانه " دار بيروت " 25.