الآيات 26-30

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ، فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ، فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾

القراءة:

قرأ أبو بكر عاصم (منزلا) بفتح الميم. الباقون بضمها. من فتح الميم جعله اسم المكان أو مصدرا ثلاثيا. ومن ضم الميم، فلانه مصدر (أنزل إنزالا) لقوله (أنزلني) ومثله (أدخلني مدخل صدق) (1) ولو قرئ. (وأنت خير المنزلين) لكان صوابا بتقدير أنت خير المنزلين به، كما تقول: أنزلت حوائجي بك. وقرا حفص عن عاصم (من كل زوجين) منونا على تقدير اسلك فيها زوجين اثنين من كل، اي من كل جنس، ومن كل الحيوان، كما قال تعالى (ولكل وجهة) اي لكل انسان قبلة (هو موليها (2)) لان (كلا، وبعضا) يقتضيان مضافا إليهما. الباقون بالإضافة إلى (زوجين) ونصب (اثنين) على أنه مفعول به يقول الله تعالى ان نوحا (ع) لما نسبه قومه إلى الجنة، وذهاب العقل، ولم يقبلوا منه، دعا الله تعالى، فقال " رب انصرني بما كذبون " أي أعني عليهم، فالنصرة المعونة على العدو. فأجاب الله تعالى دعاءه. وأهلك عدوه، فأغرقهم ونجاه من بينهم بمن معه من المؤمنين. وقوله " بما كذبون " يقتضي أن يكون دعا عليهم بالاهلاك جزاء على تكذيبهم إياه. فقال الله تعالى انا " أوحينا إليه أن اصنع الفلك " وهو السفينة " بأعيننا " وقيل في معناه قولان:

أحدهما: بحيث نراها، كما يراها الرائي من عبادنا بعينه، ليتذكر انه يصنعها، والله (عز وجل) يراه.

الثاني: بأعين أوليائنا من الملائكة والمؤمنين، فإنهم يحرسونك من منع مانع لك. وقوله " ووحينا " أي باعلامنا إياك كيفية فعلها. وقوله " فإذا جاء أمرنا " يعني إذا جاء وقت اهلاكنا لهم " وفار التنور " روي أنه كان جعل الله تعالى علامة وقت الاهلاك فوران التنور بالماء. فقال له: إذا جاء ذلك الوقت " فاسلك فيها " يعني في السفينة، وكان فوران الماء من التنور المسجور بالنار، معجزة لنوح (ع) ودلالة على صدقه، وأكثر المفسرين على أنها التنور التي يخبز فيها. وروي عن علي (ع) انه أراد طلوع الفجر. ويقال: سلكته وأسلكته، فيه لغتان، كما قال الشاعر:

وكنت لزاز خصمك لم أعرد * وقد سلكوك في يوم عصيب (3)

وقال الهذلي:

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة * شلا كما تطرد الجمالة الشردا (4)

وقيل: سلكته فيه حذف، لان تقديره سلكت به فيه. ومعنى " فأسلك فيها " احمل فيها وادخل إلى السفينة " من كل زوجين اثنين " أي من كل زوجين، من الحيوان. اثنين: ذكرا وأنثى. والزوج واحد له قرين من جنسه وقوله " وأهلك " أي أجمل أهلك معهم، يعني الذين آمنوا معك (إلا من سبق عليه القول) بالاهلاك منهم (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) اي لا تسلني في الظالمين أنفسهم بالاشراك معي ف? (إنهم مغرقون) هالكون. ثم قال له (فإذا استويت أنت) يا نوح (ومن معك على الفلك) واستقررتم فيه وعلوتم عليه، وتمكنتم منه فقل شكرا لله (الحمد لله الذيي نجانا) وخلصنا (من القوم الظالمين) لنفوسهم بجحدهم توحيد الله. وقل داعيا (رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) وقال الجبائي: المنزل المبارك هو السفينة. وقال مجاهد: قال ذلك حين خرج من السفينة. وقال الحسن: كان في السفينة. سبعة أنفس من المؤمنين، ونوح ثامنهم. وقيل: ستة. وقيل: ثمانين. وقيل: انه هلك كل ما كان على وجه الأرض إلا من نجامع نوح في السفينة. وقال الحسن: كان طول السفينة ألفا ومئتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. وكانت مطبقة تسير بين ماء السماء وبين ماء الأرض. ثم قال تعالى (ان في ذلك) يعني فيما أخبرناك به وقصصنا عليك (لآيات) ودلالات للعقلاء، يستدلون بها على توحيد الله وصفاته (وإن كنا لمبتلين) أي وإن كنا مختبرين عبادنا بالاستدلال على خالقهم بهذه الآيات، ومعرفته وشكره على نعمه عليهم، وبعبادته وطاعته وتصديق رسله.


1- سورة 17 الاسراء آية 80.

2- سورة 2 البقرة آية 148.

3- انظر 6 / 38، 321.

4- مر تخريجه في 1 / 128، 149 و 6 / 322، 459.