الآيات 116-120

قوله تعالى ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى، فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى، فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى﴾

القراءة:

قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم " وإنك لا تظمؤ " بكسر الهمزة على الاستئناف وقطعه عن الأول. الباقون بالنصب عطفا على اسم (أن). يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله يا محمد واذكر حين قال الله تعالى " للملائكة اسجدوا لآدم " أي أمرهم بالسجود له، وانهم سجدوا له بأجمعهم إلا إبليس وقد بينا - فيما تقدم - أن أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم يدل على تفضيله عليهم، وإن كان السجود لله تعالى لا لآدم، لان السجود عبادة، لا يجوز أن يفعل إلا لله، فأما المخلوقات فلا تستحق شيئا من العبادة بحال، لان العبادة تستحق بأصول النعم وبقدر من النعم لا يوازيها نعمة منعم. وقال قوم: ان سجود الملائكة لآدم كان كما يسجد إلى جهة الكعبة - وهو قول الجبائي - والصحيح الأول، لان التعظيم الذي هو في أعلى المراتب حاصل لله لا لآدم باسجاد الملائكة له. ولو لم يكن الامر على ما قلناه من أن في ذلك تفضيلا لآدم عليهم، لما كان لامتناع إبليس من السجود له وجه، ولما كان لقوله " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " (1) وجه. فلما احتج إبليس بأنه أفضل من آدم - وان أخطأ في الاحتجاج - علمنا أن موضوع الامر بالسجود لآدم على جهة التفضيل، وإلا كان يقول الله لإبليس: إني ما فضلته على من أمرته بالسجود لآدم وإنما السجود لي، وهو بمنزلة القبلة، فلا ينبغي أن تأنف من ذلك. وقد بينا أن الظاهر - في روايات أصحابنا - أن إبليس كان من جملة الملائكة وهو المشهور - في قول ابن عباس - وذكره البلخي - فعلى هذا يكون استثناء إبليس من جملة الملائكة استثناء متصلا. ومن قال: إن إبليس لم يكن من جملة الملائكة قال: هو استثناء منقطع، وإنما جاز ذلك، لأنه كان مأمورا أيضا بالسجود له، فاستثني على المعنى دون اللفظ، كما يقال: خرج أصحاب الأمير إلا الأمير، وكما قال عنتر ابن دجاجة:

من كان أشرك في تفرق مالح * فلبونه جربت معا واغذت

الا كنا شرة الذي ضيعتم * كالغصن في غلوائه المتثبت

والمعنى لكن هذا كناشرة. وتقول: قام الاشراف للرئيس، إلا العامي الذي لا يلتفت إليه. قال الرماني: وإذا أمر الملائكة بالسجود اقتضى أمن من دونهم داخل معهم، كما أنه إذا أمر الكبراء بالقيام للأمير اقتضى أن الصغار القدر، قد دخلوا معهم. وقوله " أبى " معناه امتنع " فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك " حكاية عما قال الله تعالى لآدم: إن إبليس عدوك وعدو زوجتك يريد إخراجكما من الجنة، ونسب الاخراج إلى إبليس إذ كان بدعائه واغوائه. وقوله " فتشقى " قيل: معناه تتعب بأن تأكل من كد يدك وما تكتسبه لنفسك. وقيل: فتشقى على خطاب الواحد، والمعنى فتشقى أنت وزوجك، لان أمرهما في السبب واحد، فاستوى حكمهما لاستوائهما في العلة. وقيل: خص بالشقاء لان الرجل يكد على زوجته. وقوله " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى " يعني في الجنة ما دمت على طاعتك لي والامتثال لامري وانك " لا تعرى " فيها من الكسوة " وإنك لا تظمأ فيها " اي لا تعطش فيها " ولا تضحى " أي لا يصيبك حر الشمس - وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة - وقال عمر بن أبي ربيعة:

رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت * فيضحى وأما بالعشي فيخضر (2)

أي يخضر من البرد. وقيل: ليس في الجنة شمس إنما فيها نور وضياء. وإنما الشمس في سماء الدنيا خاصة. وضحى الرجل يضحى إذا برز للشمس. قال أبو علي: إنما لم يجز أن يقول انك لا تجوع وإنك لا تظمأ. بغير فصل كراهة اجتماع حرفين متقاربين في المعنى، فإذا فصل بينهما لم يكره ذلك، كما كرهوا: إن لزيدا قائم، ولم يكرهوا " إن في ذلك لآيات " مع الفصل. وقال الرماني إنما جاز أن تعمل (ان) في (أن) بفصل ولم يجز من غير فصل كراهية التعقيد بمداخلة المعاني المتقاربة، فاما المتباعدة فلا يقع بالاتصال فيها تعقيد، لأنها متباينة مع الاتصال لألفاظها، فلذلك جاز " إن لك ان لا تظمؤا فيها " ولم يجز ان انك لا تظمؤ، لأنه بغير فصل. ثم اخبر تعالى أن إبليس وسوس لادم، فقال له " هل أدلك على شجرة الخلد... " أي على شجرة إن تناولت منها بقيت في الجنة مخلدا لا تخرج منها، وحصل لك ملك وسلطان لا يبلى على آلابد، ولا يهلك، وهي الشجرة التي نهاه الله تعالى عن تناولها. وقد قدمنا اختلاف المفسرين في ماهية تلك الشجرة فيما مضى فلا وجه لإعادته.


1- مر هذا البيت كاملا في 6 / 355.

2- مر هذا البيت في 2 / 302 و 4 / 391 و 5 / 548 و 6 / 336.