الآيات 111-115
قوله تعالى: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا، وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا، وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وحده (فلا يخف ظلما) على النهي. الباقون على الخير. قال أبو علي النحوي: قوله (وهو مؤمن) جملة في موضع الحال والعامل فيها (يعمل) وذو الحال الذكر الذي في يعمل من (من)، وموضع الفاء، وما بعدها من قوله (فلا يخاف) الجزم، لكونه في موضع جواب الشرط. والمبتدأ محذوف مراد بعد الفاء، وتقديره: فهو لا يخاف، والامر في ذلك حسن، لان تقديره من عمل صالحا فليأمن، ولا يخف. والمراد الخبر بأن المؤمن الصالح لا خوف عليه. وقوله (وعنت الوجوه) أي خضعت وذلت خضوع الأسير في يد القاهر له، والعاني الأسير، ويقال: عنا وجهي لربه يعنو عنوا اي ذل وخضع ومنه: أخذت الشئ عنوة أي غلبة بذل المأخوذ منه، وقد يكون العنوة عن تسليم وطاعة، لأنه على طاعة الذليل للعزيز قال الشاعر:
هل أنت مطيعي أيها القلب عنوة * ولم تلح نفس لم تلم في اخيتالها (1)
وقال آخر:
فما اخذوها عنوة عن مودة * ولكن بضرب المشرفي استقالها (2)
و (عنت) ذلت - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. و (القيوم) قيل في معناه قولان:
أحدهما: انه العالم فيما يستقيم به تدبير جميع الخلق، فعلى هذا لم يزل الله قيوما.
والثاني: انه القائم بتدبير الخلق، وهي مثل صفة حكيم على وجهين. وقال الجبائي: القيوم القائم بأنه دائم لا يبيد ولا يزول. وقال الحسن: هو القائم على كل نفس بما كست حتى يجزيها. ووجه (عنت الوجوه للحي القيوم) انها تدل عليه، لان الفعل منه تعالى يدل على أنه قادر وكونه قادرا يدل على أنه عالم. وقيل: معنى (وعنت الوجوه) هو وضع الجبهة والانف على الأرض في السجود - في قول طلق ابن حبيب وقوله (وقد خاب من حمل ظلما) أي خسر الثواب من جاء يوم القيامة كافرا ظلما مستحقا للعقاب. و (من) في قوله (من الصالحات) زائدة عند قوم والمراد من يعمل الصالحات. ويحتمل أن تكون للتبعيض، لان جميع الصالحات لا يمكن أحد فعلها، فأخبر الله تعالى ان من يعمل الاعمال الصالحات، وهو مؤمن عارف بالله تعالى مصدق بأنبيائه (فلا يخاف ظلما ولا هضما) اي لا يخاف ظلما بالزيادة في سيئاته، ولا زيادة في عقابه الذي يستحقه على معاصيه (ولا هضما) أي ولا نقصانا من حسناته ولا من ثوابه - في قول ابن عباس والحسن وقتادة - وقيل (لا يخاف ظلما) بأن لا يجزى بعمله (ولا هضما) بالانتقاص من حقه - في قول ابن زيد. فمن قرأ " فلا يخاف " أراد الاخبار بذلك. ومن قرأ " فلا يخف " معناه معنى النهي للمؤمن الذي وصفه عن أن يخاف ظلما أو هضما. وأصل الهضم النقص، يقال: هضمني فلان حقي اي نقصني. وامرأة هضيم الحشا أي ضامرة الكشحين بنقصانه عن حد غيره. ومنه هضمت المعدة الطعام اي نقصت مع تغييرها له. وقوله " وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا " أي كما أخبرناك باخبار القيامة أنزلنا عليك يا محمد القرآن " وصرفنا فيه من الوعيد " اي ذكرناه على وجوه مختلفة، وبيناه بألفاظ مختلفة، لكي يتقوا معاصيه ويحذروا عقابه " أو يحدث " القرآن " لهم ذكرا " ومعناه ذكرا يعتبرون به. وقيل " ذكرا " أي شرفا بايمانهم به. ثم قال تعالى " فتعالى الله الملك الحق " اي ذو الحق، ومعناه ارتفع - معنى صفته - فوق كل شئ سواه، لأنه أقدر من كل قادر، واعلم من كل عالم سواه لان كل قادر عالم سواه يحتاج إليه، وهو غني عنه. وقوله (ولا تجعل بالقرآن من قبل ان يقضى إليك وحيه " أي لا تسأل إنزاله قبل ان يأتيك وحيه. وقيل: معناه لا تلقه إلى الناس قبل ان يأتيك بيان تأويله. وقيل: لا تعجل بتلاوته فبل ان يفرغ جبرائيل من أدائه إليك. وقوله " وقل رب زدني علما " اي استزد من الله علما إلى علمك. وقال الحسن: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا نزل عليه الوحي عجل بقراءته مخافة نسيانه. وقوله " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما " قال ابن عباس ومجاهد: معناه عهد الله إليه، بأن امره به ووصاه به " فنسي " اي ترك. وقيل إنما اخذ الانسان من أنه عهد إليه فنسي - في قول ابن عباس - وقوله " ولم نجد له عزما " أي عقدا ثابتا. وقال قتادة: يعني صبرا. وقال عطية: أي لم تجد له حفظا. والعزم الإرادة المتقدمة لتوطين النفس على الفعل. وقرأ يعقوب " من قبل ان نقضي " بالنون وكسر الضاد وفتح الياء بعدها " وحيه " بنصب الياء. الباقون " يقضى " بناه لما لم يسم فاعله ورفع الياء في قوله " وحيه ".
1- سورة 7 الأعراف آية 11.
2- ديوانه (دار بيروت) 121 وروايته (يخصر) بدل (يخضر) ومعناها واحد.