الآيات 76-80

قوله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى، وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى، فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ، وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾

القراءة:

قرأ حمزة وحده (لا تخف دركا) على النهي، أو على الجزاء لقوله " فاضرب لهم طريقا " الباقون " لا تخاف " بالرفع " ولا تخشى " بألف بلا خلاف على الاستئناف. ومثله قوله " يولوكم الادبار ثم لا ينصرون " (1). وقيل إنه يحتمل أن يكون " لا تخش " مجزوما، وزيد الألف ليوافق رؤس الآي كما، قال الشاعر:

ألم يأتيك والأبناء تنمي * بما لاقت لبون بني زياد (2)

ومن قرأ " لا تخاف " بالرفع، و " لا تخشى " مثله، فهو على الخبر. وقال أبو علي: هو في موضع نصب على الحال، وتقديره طريقا في البحر يبسا غير خائف دركا. وقرأ حمزة والكسائي " أنجيتكم، ووعدتكم " بالتاء فيهما بغير الف. الباقون بالألف والنون. وقرأ أبو عمرو وحده " ووعدناكم " بغير الف. الباقون " وواعدناكم " بألف. ولم يختلفوا في " نزلنا " انه بالنون. ومعنى التاء والنون قريب بعضه من بعض، لكن النون لعظم حال المتكلم. لما اخبر الله تعالى ان لمن آمن بالله الدرجات العلى، قال ولهم " جنات عدن " اي بساتين إقامة " تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " وقد فسرناه في غير موضع. ثم قال " وذلك " الذي وصفه " جزاء من تزكى " فالتزكي طلب الزكا بإرادة الطاعة، والعمل بها. والزكا النماء في الخبر، ومنه الزكاة، لان الميل ينمو بها في العاجل والأجل، لما لصاحبها عليها من ثواب الله تعالى. وقيل: معنى " تزكى " تطهر من الذنوب بالطاعة بدلا من تدنيسها بالمعصية. والخلود المكث في الشئ إلى غير غاية. ثم أخبر تعالى فقال (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) أي سربهم ليلا لان الاسراء السير بالليل (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) والمعنى: اضرب بعصاك البحر تجعل طريقا، فكأنه قيل: اجعل طريقا بالضرب بالعصا، فعداه إلى الطريق لما دخله هذا المعنى فكأنه قد ضرب الطريق، كضربه الدينار. واليبس اليابس وجمعه ايباس، وجمع اليبس - بسكون الباء - يبوس. وقال أبو عبيدة: اليبس - بفتح الباء - المكان الجاف. وإذا كان اليبس في نبات الأرض فهو اليبس - بسكون الباء - قال علقمة بن عبده:

تخشخش أبدان الحديد عليهم * كما خشخشت يبس الحصاد جنوب

وقوله (لا تخاف دركا ولا تخشى) معناه لا تخف أن يدركك فرعون، ولا تخش الغرق من البحر - في قول ابن عباس وقتادة - وقيل: معناه لا تخف لحوقا من عدوك، ولا تخش الغرق من البحر الذي انفرج عنك. والمعنيان متقاربان. وكان سبب ذلك أن أصحاب موسى قالوا له: هذا فرعون قد لحقنا، وهذا البحر قد غشينا يعنون اليم، فقال الله تعالى " لا تحف دركا ولا تخش ". ثم اخبر تعالى فقال (فأتبعهم فرعون بجنوده) أي دخل خلف موسى وبني إسرائيل، وفى الكلام حذف لان تقديره: فدخل موسى وقومه البحر ثم أتبعهم فرعون بجنوده ومن اتبعهم. فمن قطع الهمزة جعل الباء زائدة. ومن وصلها أراد: تبعهم وسار في أثرهم، والباء للتعدية. وقوله (فغشيهم من اليم ما غشيهم) يعني الذي غشيهم. وقيل: معناه تعظيم للامر لان (غشيهم) قد دل على (ما غشيهم) وإنما ذكره تعظيما. وقيل: ذكره تأكيدا. وقال قوم: معناه فغشيهم الذي عرفتموه. كما قال أبو النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري (3) وقال الزجاج: فغشيهم من اليم ما غرقهم. وقال الفراء: معناه " فغشيهم من اليم ما غشيهم " لأنه ليس الماء كله غشيهم، وإنما غشيهم بعضه. وقال قوم: معناه " فغشيم " يعني أصحاب فرعون " من اليم " ما غشي قوم موسى إلا أن الله غرق هؤلاء، ونجا أولئك. ويجوز أن يكون المراد: فغشيهم من قبل اليم الذي غشيهم من الموت والهلاك، فكأنه قال: الذي غشيهم من الموت والهلاك كان من قبل البحر إذ غشيهم، فيكون (غشيهم) الأول للبحر، و (غشيهم) الثاني للهلاك والموت. وقوله " وأضل فرعون قومه وما هدى " معناه أنه دعاهم إلى الضلال وأغواهم، فضلوا عنده، فنسب إليه الضلال. وقيل: إن معناه أستمر بهم على الضلالة فلذلك قيل " وما هدى ". ثم عدد الله على بني إسرائيل نعمه، بأن قال " يا بني إسرائيل قد أنجيناكم " أي خلصناكم " من عدوكم " فرعون " وواعدناكم جانب الطور الأيمن " معناه إن الله واعدكم جانب الجبل الذي هو الطور، لتسمعوا كلام الله لموسى بحضرتكم هناك " ونزلنا عليكم المن والسلوى " يعني في زمان التيه أنزل عليهم المن، وهو الذي يقع على بعض الأشجار، والسلوى طائر أكبر من السمان.


1- آمالي السيد المرتضى 1 / 350. وبعد: (لله دري ما يجن صدري).

2- سورة 20 طه آية 86.

3- سورة 43 الزخرف آية 55.